من المبكر إنتظار خروج الدخان الأبيض من إجتماعات باريس الخماسية أو الثنائية، لأن الجانب الفرنسي يتعاطى مع الملف اللبناني بشيء من الإستسهال وبكثير من التبسيط.
التسرع الفرنسي بطرح إقتراحات بعيدة عن المعادلات المتوازنة، أساء لدور الاليزيه في الإجتماعات المخصصة لبحث الأزمة اللبنانية، وإيجاد الحلول الملائمة لها، وأظهر باريس وكأنها تُظاهر فريق على حساب الآخر في لبنان.
لم يدرك الوسيط الفرنسي أن المسألة اللبنانية تجاوزت بتعقيداتها المختلفة، حسابات الأشخاص، مثل طرح صيغة (سليمان فرنجية نواف سلام)، إلى ما هو أكثر جذرية، وأشد تعقيداً في العملية الإنقاذية المطلوبة. ذلك أن المعادلة الشخصية سقطت مرتين في عهدين متتاليين: الأولى عهد الرئيس ميشال سليمان يوم أطاح فريق ٨ آذار برئيس الحكومة سعد الحريري وهو على عتبة الدخول إلى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما، حيث خرج هذا الفريق على بنود إتفاق الدوحة، وأعلن وزراء «الثلث المعطل» إستقالاتهم من الرابية بالذات. والثانية عندما أطاح العماد ميشال عون وصهره ببنود تسوية باريس التي أوصلت الأول إلى بعبدا، وأطاحوا بسعد الحريري، وحالوا دون تشكيله حكومة جديدة، وجاؤوا بحسان دياب بديلاً.
الموقف السعودي يَنُم عن إستيعاب ناضج وعميق لجذور الأزمة الراهنة في لبنان، يتجلى من خلال الرفض المستمر لسفير المملكة وليد بخاري الخوض في لعبة الأسماء، وتجنب الإنزلاق إلى زواريب الخلافات السياسية، والبقاء على شاطئ المواصفات المناسبة للرئيس العتيد، من دون الإنجرار إلى مناورات الترشيحات الحزبية والسياسية.
المواصفات الشخصية للرئيس أصبحت معروفة، وكثيرة التداول في الفترة الأخيرة، ونمرّ عليها بسرعة من باب التذكير: أن يكون من خارج بيئة الفساد السياسي والمالي. أن يكون قادراً على إعادة وطن الأرز إلى الحضن العربي، وترميم العلاقات اللبنانية مع الدول العربية، وخاصة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. أن يكون حَكَمآً فوق مستوى الخلافات السياسية التقليدية، ولا ينحاز لهذا الحزب أو ذاك الفريق في السلطة.
والأهم طبعاً أن يكون مؤمناً بمبادئ ودستور الطائف، ولا يحاول عبر الممارسة اليومية نسف قواعد إتفاق الطائف، كما حاول العماد عون وفريقه طوال العهد المنصرم. إلى جانب أن يكون داعماً للحكومة ومتفاهماً مع رئيسها لتسهيل إتخاذ القرارات الإصلاحية وتنفيذها بالسرعة اللازمة، لإستعادة الثقة الداخلية والخارجية، وفتح أبواب المساعدات من جديد.
ولكن أثبتت التجارب المريرة أن هذه المواصفات لم تعد تكفي وحدها لضمان فترة من الإستقرار والإنتاجية المطلوبة في السلطة التنفيذية، حيث لا بد من سلة تفاهمات تتناول إلى شخصية رئيس الحكومة، برنامج العمل المُلحّ، والخيوط العريضة لخطة العمل الإصلاحية، وتوفير كل ما يلزم من تسهيلات ودعم لخطوات الإنقاذ، بعيداً عن المزايدات الشعبوية، والبهورات الحزبية.
ولعل الخطوات الإصلاحية الأولى تبدأ بالخروج عن القيود التي كانت تحيط بتشكيل الحكومات في الفترة الأخيرة، وفي مقدمتها طي صفحة «الثلث المعطل»، وكسر إحتكار الطوائف لبعض الوزارات السيادية أو الدسمة، والعودة إلى نظام المداورة بين الطوائف ومختلف الوزارات، السيادية منها وغير السيادية، وتوفير المناخات المناسبة لتسريع الخطوات الإنتاجية للحكومة في أجواء من التهدئة السياسية، تُساعد على تفعيل إجراءات إنعاش الليرة وتخفيض الدولار الأسود، وصولاً إلى توحيد سعر الصرف، كما يُطالب صندوق النقد الدولي.
غير أن المحك الأساسي لجدية الأطراف السياسية في سلوك سبيل الإصلاح والإنقاذ، يبقى في إمكانية منح حكومة العهد الأولى الصلاحيات الإستثنائية في بعض التشريعات المالية والنقدية، بعيداً عن دورة الروتين التشريعي التقليدي، وبما يؤمن متطلبات الدول المانحة والمؤسسات المالية من سرعة في إتخاذ القرارات الإصلاحية وإحالتها إلى التنفيذ فوراً.
التصدي لتحديات المرحلة الإستثنائية والصعبة التي يتخبط فيها البلد، وما يواكبها من إنهيارات وتعقيدات، يتطلب خطوات استثنائية وقرارات تنفيذية سريعة، ليس سهلاً تزخيم مفاعيلها وإحداث الصدمة المطلوبة منها، دون منح صلاحيات إستثنائية للحكومة الإنقاذية، على غرار ما كان يحصل في فترات الأزمات السياسية والأمنية في مرحلة ما قبل الطائف، حيث كانت الحكومات الأولى لبعض العهود تُمنح الصلاحيات الإستثنائية، لتمكينها من تطويق الأزمات، ومعالجة المشاكل قبل أن تتفاقم، وبعيداً عن المزايدات السياسية والخطابات الشعبوية في مجلس النواب.
فهل نشهد عهداً إستثنائياً قادراً على إخراج البلد من هذا الجحيم الإستثنائي، بسرعة الصلاحيات الإستثنائية؟
بعيداً عن حسابات التفاؤل ومقاييس التشاؤم، يمكن القول أن ما كان مستحيلاً قبل العاشر من آذار، أصبح ممكناً بعد الإتفاق السعودي الإيراني، الذي قد يكون لبنان محطته الثانية بعد اليمن.