ليس سرّاً أنّ رفض الرئيس نبيه بري لانتخاب العماد ميشال عون في انتخابات العام 2016، كان مردّه إلى انّ بري كان مدركاً سلفاً أيّ عهد رئاسي سيحكم البلد. ولمن راجعه في هذا الرفض، كان جوابه جاهزاً: لا اريد ان انتخب رئيسين.
وجرت الانتخابات آنذاك، وتربّع عون على عرش بعبدا، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى كان ذوبان الثلج السياسي اسرع من البرق، وصار للبلد بالواقع والملموس، وباعتراف كل الاطراف من دون استثناء، رئيسان للجمهورية، واحد يحكم، والآخر يتحكّم.
في تلك الانتخابات، كان جبران باسيل في موقعه الطبيعي في ظهر عمّه. اما سمير جعجع، ففرش لعون السجاد الاحمر في معراب، ودخلت الرابية ومعراب في غرام، بدا للحظة انّه جرف كل التاريخ الصدامي والدموي بين عون وجعجع، ولكن لم يطل الأمر، حتى تلاشت تلك العواطف، وابتُلعت الوعود، وسقطت التفاهمات، ومُحي شعار «اوعى خيك»، واستُبدل بشعار كاريكاتوري «قوم بوس تيريز». وفي النتيجة، حقق عون وجبران مرادهما، واما جعجع، فلم يبق امامه سوى ان يتلو فعل الندامة على جعل نفسه جسر عبور لعون وصهره إلى القصر الجمهوري، وتموضع خلف متراس المواجهة الشرسة لعهد عون وجبران.
ودخل الطرفان في علاقة خريفية أسقطت كل اوراق التفاهم بينهما، واحتدمت المواجهة بينهما بوجوه وأشكال مختلفة، تصاعدت مع تشكيل الحكومات، والتعيينات، وبلغت ذروتها مع انطلاق ما سُمّيت ثورة تشرين، واستحالت معركة كسر عظم في الانتخابات النيابية الاخيرة التي جاءت نتائجها لتُدخل «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» بنزاع عقيم، حول من هو الأقوى على المستويين المسيحي والنيابي، يتسلّح فيه كل طرف بشعار: «انا الأقوى مسيحياً والأوسع تمثيلا في مجلس النواب». ومنطق القوة هذا سحبه التيار على تسمية كتلته النيابية «تكتل لبنان القوي»، وكذلك فعلت «القوات» التي سمّت كتلتها «الجمهورية القوية». وصولاً إلى اللحظة الحالية والمواجهة الأصعب التي يخوضانها على حلبة الانتخابات الرئاسية، التي يريدها كل طرف منهما أن يميل بدفّته اليه. واما المواصفات المطلوبة التي يتقاطعان عليها، كل بحسب منطقه ورؤيته، خلاصتها ان يكون الرئيس قوياً.
ولكن، بمعزل عمّن هو الأقوى، التيار او «القوات»، فإنّ هذه القوة لم تمكّن اياً منهما من تحقيق حلمه الرئاسي. فجعجع الذي سبق ان جرّب الترشح في انتخابات 2016 وفشل، لم يجد امامه باباً مفتوحاً لكي يترشّح شخصياً، فذهب إلى تبنّي ميشال معوّض. والأمر نفسه بالنسبة إلى جبران مع سقوط حلمه الرئاسي، وكذلك افتقاده القدرة على الترشّح شخصياً، ذلك أنّ الظروف المعاكسة أحاطته من كل الجوانب، فاختار الشراكة في لعبة الاوراق البيضاء. وفي النتيجة كانت 11 جلسة انتخاب فاشلة، وتمديد للفراغ في رئاسة الجمهورية.
ليس خافياً انّ نقطة التقاطع بين جعجع وباسيل، كانت ولا تزال، قطع طريق الرئاسة على الوزير سليمان فرنجية، وليست خافية المحاولات الحثيثة من قِبل الطرفين لنزع صفة القوّة عن فرنجية والتشكيك بتمثيله، وخصوصاً على المستوى المسيحي، متسلّحة، تلك المحاولات، بما اعتبروها «فيتوات» اميركية وسعودية على فرنجية، ولكن رغم ذلك، ظل فرنجية متقدّماً كمرشح وحيد وجدّي وقوي لرئاسة الجمهورية، وصار متقدّماً اكثر مع الحراكات الاخيرة التي توزعت ما بين باريس وبيروت والرياض، واكّدت بما لا يقبل ادنى شك أن لا وجود لمنطق الفيتوات، ولا ممانعة لا لدى الفرنسيين، ولا لدى الاميركييين ولا لدى السعوديين لانتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية.
هذه التطوّرات، ريّحت داعمي فرنجية، لكنها في المقابل أربكت خصومه، وخصوصاً من يعتبرون انفسهم أقوياء، بعدما تكشف لهم انّ الحركة الديبلوماسية المؤيّدة اميركياً وفرنسياً وعربياً، التي قادها السفير السعودي وليد البخاري، انطلقت من قاعدة أن لا «فيتو» على أي مرشّح، وانّ إجراء الانتخابات الرئاسية ينبغي أن يحصل في اسرع وقت ممكن، الامر الذي يوجب على الأطراف السياسية في لبنان الاحتكام للعبة الديموقراطية ومن يربح من المرشحين يربح، ووصل الامر إلى حدّ التلويح بعقوبات على معطّلي نصاب جلسة الانتخاب.
اللافت في هذا السياق، انّ داعمي فرنجية عبّروا عن جهوزيتهم للتفاعل الفوري مع ما يطرحه البخاري، وخصوصاً انّ الرئيس بري، سبق له أن قرن إعلانه دعم ترشيح الوزير فرنجية لرئاسة الجمهورية، بالتوجّه إلى سائر الاطراف الداخليين، داعياً إلى ان يقدّم كل طرف مرشحه، ولننزل إلى مجلس النواب ولتجرِ الانتخابات في جوّ ديموقراطي تنافسي وليربح من يربح. الّا انّ الصورة ما زالت مربكة في المقلب المعارض، لانعدام القدرة على التوحّد حول مرشح معيّن، ففي هذا المقلب معارضات وتوجّهات مختلفة وتناقضات متصادمة.
ضمن هذه الصورة المربكة، بدأت الكتل المعارضة الكبرى في الترويج لبعض الاسماء، بالتوازي مع حديث عن جهود تُبذل لحشد الاصوات لها، وتدخل في اطار هذا الحشد، محاولة التقاء التيار و»القوات»، على «مصلحة مشتركة» بدعم مرشح يواجه فرنجية، وهذه المصلحة المشتركة على ضرورتها، دونها حتى الآن، مطبّات وعقبات مستعصية.
الّا انّ ما ينبغي لحظه هنا، هو انّ هذه الاطراف المشكّكة بتمثيل فرنجية، تبيح لنفسها ما تعيبه على غيرها، حيث انّ الاسماء التي تطرحها لرئاسة الجمهورية، لا تنطبق عليها معايير «القوة التمثيلية السياسية والمسيحية عموماً والمارونية» التي تشكّل أساس المواصفات التي تشترطها الكتل الكبرى، بل هي اسماء من وزن الريشة السياسية، لا تمثيل لها لا في مجلس النواب، ولا حضور لها اصلاً على المسرح السياسي.
الطريف في الأمر، انّ هذه الترشيحات تستحضر تلقائياً ما قاله بري عن انتخاب الرئيسين، إذ انّ ترشيح بعض الأسماء من قِبل تلك الكتل، لن يؤدي إلى انتخاب رئيس واحد للجمهورية، بل انّ هذا الترشيح إن تبنته كتلتا «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، سيؤدي، على اقل تقدير، إلى انتخاب ثلاثة رؤساء للجمهورية، الأول رئيس الجمهورية الضعيف الذي سيُنتخب، وإلى جانبه رئيسان فعليان يحكمان ويتحكّمان به من خلال حزبيهما، هما سمير جعجع وجبران باسيل. يعني بدل ان نكون برئيسين نصبح بثلاثة رؤساء.
لا شك انّ هذه الاطراف محشورة في صعوبة حسم خياراتها، اولاً لأنّه بدل المعارضة هناك معارضات، ولكل معارضة مرشحها، فضلاً عن انّها فقدت رافداً لها، هو وليد جنبلاط الذي عاد إلى التموضع في وسطيته، في انتظار الانخراط في تسوية رئاسية جدّية لا بدّ انّها ستظهر في القريب العاجل. واما اوان هذه التسوية، فعلى ما يقدّر المطلعون على خفايا الحراكات والمساعي الصديقة والشقيقة، فإنّ جلاء الصورة الرئاسية بات مسألة وقت قصير، البعض يحدّده بأسابيع قليلة، والبعض الآخر يضع سقفاً له اواخر الشهر المقبل، الّا إذا فرضت الحراكات المنتظرة ما بعد القمة العربية تقريب موعد الحسم الرئاسي إلى ما قبل 15 حزيران.