عشية جلسة الانتخاب، تبدو القوى السياسية على تأهّبها، بما يعطي صورة متشنّجة بالمعنى السياسي والطائفي. حتى الأيام الأخيرة، كان الهاجس الأمني طاغياً لدى قوى معارضة من تطيير الجلسة بذرائعَ أمنية. لكنَّ الساعات الأخيرة حملت إلى القوى الأساسية إشارات خارجية مطمئنة بأن لا اتجاه لإحداث توتير أمني، على وقع اتصالات إقليمية ودولية، وأن ضبط الاستقرار أخذ حيّزه في هذه الإشارات. هذا لا يعني، في المقابل، أن الاحتمالات السياسية مطمئنة بالقدر نفسه، وسط ترقّب لحظة بلحظة، لمسار الاتصالات والمنحى الذي ستأخذه قبل ساعات من الجلسة. تبعاً لذلك، طُرحت تساؤلات مشروعة حول «القدرة الإلهية» التي جمعت قوى متناقضة كلياً في الاتفاق على مرشح واحد، كان إلى وقت قصير مجرد اسم على لائحة. هل هو مجرد توافق داخلي، أسبغه «الروح القدس» على القيادات المارونية، أم أنه تطور خارجي أفضى إلى القفز نحو توافق انضم إليه الحزب التقدمي الاشتراكي، وبعض (حتى الآن) الأصوات السنية وعدد من النواب التغييريين؟
هذه القوى كانت حتى ما قبل الاتفاق على إسقاط مرشح الثنائي الشيعي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، تفنّد في صالوناتها السياسية ملاحظاتها على أزعور، وليس الملاحظات على دوره الاقتصادي التقني التي تسجّل هذه القوى إشادتها بأدائه فيها: فريق يرى فيه مرشحاً ضد مرشح حزب الله، لكنه يرى كذلك أنه لم يعلن يوماً موقفاً حاداً من الحزب منذ أن كان وزيراً. فريق يرى فيه ربيب تيار المستقبل وخليفة الرئيس فؤاد السنيورة، وابن السنية السياسية وليس المارونية السياسية. وفريق آخر يعتبر أن للتيار الوطني الحر فيه حصة الأسد، وأن التيار سيتحكم بالعهد المقبل إذا ما وصل أزعور. مع ذلك، هناك من جمع، خارجياً أو داخلياً، في لحظة ما كل هؤلاء لإيصال المرشح إياه، ببركة بطريركية مارونية، علماً أن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كان لا يزال يمنّي النفس بإجماع المسيحيين على مرشح تقليدي مقرّب منه. ومفارقة كل هؤلاء أنه مع تقدم موعد الأربعاء باتوا يرون فيه أكثر من مرشح لمواجهة فرنجية، وهنا يبدو تحدي الجميع وسؤالهم الداخلي: كيف قفز أزعور فجأة من مرشح – مشروع رئيس إلى مشروع رئيس محتمل بفعل حركة خارجية وداخلية أفضت إلى الضغط لتجميع الأصوات حوله. لا يمكن بالنسبة إلى هؤلاء أن يصل الآتي من صندوق النقد، إلى المجلس النيابي مرشحاً لجلسة واحدة ليطوي الصفحة بعدها، لذا لا يبدو المشهد منحصراً بتجربة مرشحين متعارضين تفضي إلى مرشح تسوية ثالث. صحيح أن رهاناً سابقاً كان يعوّل على علاقة بري بأزعور، إلا أن هؤلاء لا يزالون يرون في ما يجري من اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مساحة قد تؤدّي إلى مفارقة رئاسية، يمكن أن تتحول معها جلسة الأربعاء إلى الصدمة التي يحتاج إليها النظام اللبناني. فالاتصالات التي تحرّكت فجأة، فرنسياً وقطرياً وسعودياً وإيرانياً على مستوى رفيع، لا توحي إلى الآن بأن المرحلة المقبلة ستكرر نفسها بجلسات مراوحة على غرار ما جرى في سنوات الفراغ قبل انتخاب الرئيس ميشال عون.
في المقابل، وقبل الجلسة، تتكرّس يومياً تداعيات الترشيح التي خلص إليها الاتفاق على أزعور على القوى التي تخوض معركته، ولن يكون من السهل تجاوز سلبياتها: بين القوى الأساسية التي تخوض معركة أزعور يقف حزبا القوات اللبنانية والكتائب على تصالح مع قاعدتهما وقيادتهما، ولم يترك الترشيح أي ندوب على جسمي الحزبين، أو تأثيرات على أحلافهما، بخلاف ما جرى مع الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر.
فمشكلة الحزب التقدمي تتعدى يوم الأربعاء، لأن مجرد القفز فوق علاقته بالثنائي، يفترض صياغة السؤال مجدداً عن السبب الذي دعاه إلى التمسك بالتفاهم مع التيار والمعارضة. والأكيد أن القرار ليس ديموقراطياً بمعنى الانسجام مع جو القاعدة التي كانت ميّالة بالمطلق منذ سنوات إلى رفض اتجاهات الثنائي الشيعي السياسية والرئاسية. أهمية الاحتكام إلى خيار تيمور جنبلاط أن هذه الخطوة السياسية الأولى، تؤسس لمرحلة ستكون معها قيادة الحزب على المحك، في إحداث التوازن بين ما تم تخطيه وما تم قبوله في تفاهم مرحلي وظرفي مع المعارضة والتيار على حساب تهدئة متوازنة كانت نسجتها مع الثنائي.
أما مشكلة التيار الوطني الحر، فتحوّلت من عقدة الترشيح ألى عقدة برأسين، وإحكام القبضة على التيار يبدو أهم من علاقة التيار بحزب الله. كل من في دائرة القرار يتحدث عن قرار واحد، ويخطئ من يظن أن رئيس التيار النائب جبران باسيل يملكه وحده. يخوض الرئيس ميشال عون معركة الانتخابات بنفسه، ومعركة عدّ الأصوات التي يفترض أن تصب في صندوق الاقتراع بنفسه، وهي معركته الخاصة، وكأنها التي خاضها قبل ست سنوات ونصف سنة. لا يعني ذلك أن باسيل خارج اللعبة، بل هو في قلبها، ويريد أن تكون المعركة الحالية «نموذجاً» لمركزية القرار مرة واحدة وأخيرة. وإذا كان لدى معارضي ترشيح أزعور ألف سبب وسبب لرفضه، كما انتقاد مسيرة قيادة الحزب التي أوصلت إلى ما وصل إليه كآلية تطيير تشكيل حكومة والخروج من موقع القرار السياسي، ليصير رهن المعارضة، إلا أنهم لم يتحدثوا مرة بالخروج من التيار، وهو الأمر الذي يلوّح به التيار لكل معارض ولكل من يصوّت خارج القرار المركزي. لكن، في المحصّلة، معركة أزعور أفضت إلى كشف الأوراق على طاولة التيار، ومعها انكشاف أن من ينتقد حزب الله ليس باسيل وحدَه. فعون يكرر أمام التياريين ما يقوله علانية من ملاحظاته على فشل عهده وعلى دور حزب الله في التمسك بفرنجية.
أما الطرف الأكثر تضرراً من معركة حصلت لدعم ترشيح أزعور، فيتمثل في الواقع السني، ولا سيما الموالي تقليداً لتيار المستقبل. ففي مقابل بدء عملية استنهاض خارجية لأصوات السنة المتردّدين، أكدت معلومات في الأيام الأخيرة عن سعي مقرّبين من الرئيس سعد الحريري إلى العمل بجدية لمنع تأمين دعم سني لأزعور، رغم محاولة إقناع هؤلاء ومن وراءهم بأن تيار المستقبل أصبح قادراً على إيصال أحد أهل البيت المستقبلي إلى سدة الرئاسة، وهذا في حد ذاته أمر يفترض الترحيب به لا محاربته. لكنّ الخلافات الشخصية الحادة، وعدم هضم وصول رئيس للجمهورية من الجو القريب من بيت الوسط في حالته السابقة، في مرحلة يعتكف فيها زعيم تيار المستقبل، كل ذلك جعل فريق الحريري يمارس لعبته، إلى أن جاء تدخل عربي فاعل للجم هذه المحاولة.