ترتفع أسهم ترحيل الاستحقاق الرئاسي، وسط تراجع الاهتمام به وتغييب الكلام عنه وعن مروحة المرشحين، وكأن ثمة تسليماً بأن انتخابات رئاسة الجمهورية ستصبح مرة أخرى في الثلاجة
من النادر أن يواجَه الاستحقاق الرئاسي بهذا القدر من عدم الاهتمام. حتى في عزّ أيام الاستعداد للفراغ الرئاسي، كان الحدث الرئاسي شاغل السياسيين ومالئ دنيا السياسة اللبنانية.
اليوم، وعلى مقربة شهر وأيام معدودة من بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ليس هناك ما يوحي بأن الاستحقاق قائم، لا في موعده ولا بعده، بعدما طارت احتمالات إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ما ينقل دورياً عن أن الرئيس نبيه بري سيدعو الى جلسة انتخاب رئيس للجمهورية مع مطلع أيلول، من دون أن يعني ذلك أن الانتخابات حاصلة، يقابله كلام عن أنّ تطيير الانتخابات يكبر ككرة الثلج، حتى بات الحديث المتقدم في الوسط السياسي، ما يبرر تراجع الاهتمام بالاستحقاق، مع تداول للسيناريوات التي ستكون الأكثر حضوراً من الآن حتى بداية أيلول المقبل، وصولاً الى 31 تشرين الأول.
في مراحل سابقة، كان المشهد الرئاسي يأخذ عناوين واضحة بحسب الظروف الاقتصادية أو الأمنية، فتتقدم أسماء مرشحين كحاكم مصرف لبنان حين كان لا يزال مقبولاً أو قائد الجيش. وبينهما كانت لائحة الشخصيات المارونية تكبر أو تتقلّص بين تكنوقراط وحقوقيين وأمنيين وسياسيين ومصرفيين في لبنان والخارج، بحسب الظروف والحيثيات الداخلية والإقليمية. وكانت أسماء تسقط وأخرى تستمر، فتتبدّل اللائحة بين استحقاق وآخر.
كانت تسوية الرئيس ميشال سليمان إثر اتفاق الدوحة أول الأمثلة وآخرها عن الذهاب الى اختيارات من خارج الاصطفافات، ولو أنها ظلّت ضمن لوائح المرشحين المطروحين دورياً، قبل أن تتم تسوية الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري. والتسوية التي ساهمت القوات اللبنانية فيها، بعد اتفاق معراب، دلّت بحسب سياسة العهد وممارساته طوال ست سنوات وما أسفرت عنه من خروج الحريري من العمل السياسي، غلبة الاصطفاف السياسي على ما عداه، علماً بأن لا الوضع الداخلي ولا التموضع الإقليمي كانا بالحدّة التي يشهدها لبنان والمنطقة اليوم، ما يعزز الذهاب الى خيار مماثل في المرحلة الراهنة، وينزع لدى معارضي حزب الله احتمال اختيار شخصية من صفوفه.
لكن بين حسابات حزب الله في التدرج من رئاسة لقوى 8 آذار أو الذهاب الى تسوية عبر شخصيات لا لون لها، وبين الفراغ الرئاسي، تكبر خشية معارضي الحزب أن يكون الخيار الأخير أسلم للحزب في إبقاء الرئاسة في الثلاجة. وما يعزّز هذه الخشية ليس أداء الحزب وحده ولا انتظار بلورة الخيارات الإقليمية، إنما أيضاً انتفاء أي خطة واضحة لمعارضيه في مواكبة الاستحقاق.
وبخلاف ما جرى في اصطفاف قوى 14 آذار مقابل قوى 8 آذار بعد 2005، ورغم عدم وصول مرشحي الطرفين الى قصر بعبدا، فإن استحقاق انتخاب عون ساهم في شرذمة معارضي حزب الله، وصولاً الى الاستحقاق الحالي الذي تتصرّف المعارضة فيه من دون مظلة واسعة تؤسس فعلياً لمعركة رئاسة الجمهورية. ففيما تظهر خيارات الحزب أكثر وضوحاً وإن لم تكن نهائية في اختيار أسماء مرشحيه، ليس لدى معارضيه لائحة واحدة أو ملامح الاتفاق على اسم واحد لخوض المعركة به. لا بل إن طرح أسماء كقائد الجيش جوزف عون الذي عاد ليطرح بعد مرحلة انحسار وتقدم اسم رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، أو بدء طرح أسماء نواب جدد من التغييريين أو نواب مستقلين، لا يزال يتم من باب جس النبض أو حرق الأسماء وليس عبر خطة واضحة لخوض الاستحقاق بها.
انتخاب عون ساهم في شرذمة معارضي حزب الله، وصولاً إلى الاستحقاق الحالي
ثمة أمر أساسي أسفرت عنه الانتخابات النيابية عندما لم تتمكن قوى المعارضة من ترجمة انتصارها في انتخابات رئاسة المجلس النيابي ولا نائبه. وهذه المحصلة لا تزال تمثل السقف الأساسي الذي تخشاه هذه القوى. فحتى الآن، ليس هناك حد أدنى من التوافق بين الأحزاب المعارضة والمستقلين ومجموعة الـ 13 نائباً الذين باتوا أكثر تعبيراً عن خياراتهم السياسية الشخصية بدل تعبيرهم عن خيارات الشارع المعارض. فيما كان يفترض أن يبدأ الكلام الجدي مبكراً لوضع اللمسات الأولى ليس فقط لإدارة المعركة واختيار مرشح المعركة أو التسوية، بل لمقاربة الجلسة الأولى التي يحتمل أن تعقد بعد خمسة أسابيع. فما سيجري بدءاً من أيلول وليس في نهاية تشرين الأول كما يخيّل لبعض الوافدين الجدد الى ساحة النجمة، هو اللبنة الأساسية لرسم ملامح مستقبل الرئاسة. والأمر نفسه ينسحب على قوى المعارضة كافة. فمعركة رئاسة الجمهورية لا تتم بالذين خاضوا الانتخابات وربحوا فيها وحدهم، رغم أنهم الذين سيضعون الأوراق في صندوق الاقتراع. بل إن أطر المعارضة وشخصياتها والمرجعيات الدينية ولا سيما بكركي التي فتحت معركة الرئاسة بتحديد شروط ومواصفات وإلغاء مواصفات، يفترض أن تكون كذلك من ضمن العمل الجماعي لتحضير أرضية صالحة للانتخابات كما حصل سابقاً. وهذا الأمر ليس متوافراً بالحد الأدنى، ليس فقط عند القوى المسيحية أو المارونية. بل كذلك لدى القوى السنّية والدرزية التي تتلطّى إما بالحريري كمنسحب من الحياة السياسية أو خلف الرئيس بري وخياراته الرئاسية، فلا تقدم على مقاربة جدية للرئاسة، ليصبح القاسم المشترك بين المعارضة والموالاة أن الاستحقاق في الثلاجة الى ما بعد 31 تشرين الأول. والفارق الوحيد أن أيّ قرار في هذا الشأن لن تكون للمعارضة أو مَن وراءها يد فيه.