Site icon IMLebanon

مطالعة قانونية حول انتخاب رئيس الجمهورية

 

الإنتخاب واجب دستوري لمجلس النواب وليس مجرّد صلاحية فقط

القاضي هاني حلمي الحجّار

مقدّمة:

أثارت صياغة المادتَين 73 و74 من الدستور اللبناني نقاشاً دستورياً وسياسياً حول نصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وحول مفهوم الاجتماع أو الانعقاد الحكمي للمجلس ومفهوم الدورات المتتالية، وسوف نتطّرق في ما يلي في فقرة أولى الى هذه المسألة انطلاقاً من طبيعة مسألة انتخاب الرئيس وما إذا كانت تُشكّل صلاحيةً للمجلس النيابي أم واجباً دستورياً عليه، وعلى ان نتطرّق في فقرة ثانية على النتائج القانونية المترتبة على الطبيعة القانونية لمسألة انتخاب الرئيس، للوصول الى خالصة بسيطة وعمليّة تفعّل مفهوم الالتئام الحكمي للمجلس النيابي لأجل انتخاب فخامة الرئيس.

فقرة أولى: انتخاب رئيس الجمهورية واجب دستوري أم صلاحية دستورية للمجلس النيابي؟

 

نصت المادة 49 من الدستور اللبناني على ان «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقا لأحكام الدستور.

يرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء. ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.

وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته…».

كما نصّت المادة 73 منه على ما يلي:

«قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناءً على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، وإذا لم يُدع المجلس لهذا الغرض فانه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس».

يستدلّ من نص المادة 73 المتقدمة ان الدستور حصر السلطة التقديرية لرئيس المجلس النيابي في الدعوة لجلسة انتخاب الرئيس بفترة تقع ضمن الشهر على الأقل والشهرين على الأكثر من أجل التئام المجلس لانتخاب الرئيس، كما تحسب لمسألة عدم حصول مثل هذه الدعوة فنصّ على انعقاد المجلس حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولاية الرئيس.

 

الملاحظة الأولى التي يُمكن تسجيلها هي ان الدستور نصّ على الاجتماع الحكمي في اليوم العاشر قبل انتهاء ولاية الرئيس في حال عدم حصول الدعوة من قبل رئيس المجلس ضمن المهلة المتاحة لرئيس المجلس لدعوته، ولم يتناول موضوع الاجتماع الحكمي من زاوية انه بالإمكان أن تكون قد حصلت دعوة من قبل رئيس المجلس ضمن المهلة المحددة في المادة 73 وان هذه الدعوة لم تُفض سواء الى انعقاد الجلسة وسواء الى انتخاب الرئيس، اي ان الدستور اللبناني اعتبر ان انتخاب الرئيس هو موجب نتيجة يتوجّب على المجلس النيابي الوصول إليه بمجرّد دعوة رئيس المجلس لانعقاد الجلسة، و ليس مجرّد موجب وسيلة، فالاجتماع الحكمي يرتبط بعدم حصول الدعوة أصلاً من قبل رئيس المجلس، أي ان الدستور اعتبر انه لا يُمكن إلّا أن توصل هذه الدعوة الى نتيجة واحدة هي انتخاب رئيس بعد اجتماع مجلس النواب الحاصل تبعاً لها.

 

الملاحظة الثانية هي ان الاجتماع الحكمي في اليوم العاشر قبل انتهاء ولاية الرئيس ليس موجهاً الى أعضاء المجلس النيابي لحثّهم على المشاركة في جلسة الانتخاب، بل هو يُنظّم على سبيل التحسّب مسألة عدم توجيه رئيس المجلس النيابي دعوة للمجلس الى انتخاب الرئيس ضمن المهلة المتاحة له، ودون أن يتطرّق سواء في مسألة التئام المجلس بدعوة من رئيسه أو في مسألة اجتماعه الحكمي الى الحديث عن أي نصاب سواء نسبي أو عددي كشرط لهذا االالتئام أو الاجتماع.

وأبعد من ذلك تحسّب الدستور في المادة 74 منه لمسألة الشغور في سدّة رئاسة الجمهورية فنصّ على انه «إذا خلت سدّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية»، ففضلاً عن ان الدستور لم يربط إمكانية الشغور بأن يكون ناتجاً عن تعذّر الانتخاب وفق أحكام المادة السابقة وإلّا لكان نصّ على ذلك صراحة، إذ لا يُعقل أن يتمّ شمول هذا السبب ضمن «لأي سبب آخر»، فمن غير المنطقي تجهيل القاعدة الأساسية للانتخاب ضمن مفهوم «السبب الآخر»، ولكن بكل حال وعلى فرض التسليم بان تعذّر الانتخاب يقع ضمن مفهوم «السبب الآخر» فان المادة 75 نصّت على اجتماع المجلس «فوراً» دون أي مهلة ودون أن يتمّ ربط هذ الاجتماع بالحاجة لدعوة من رئيس المجلس.

 

بأي حال ان الدستور اللبناني الذي عالج مسألة انتخاب رئيس الجمهورية بشكل أساسي في مواده 49 و73 و74 إضافةً الى المادة 75 منه التي نصّت على ان المجلس الملتئم لانتخاب الرئيس يُعتبر هيئة ناخبة لا هيئة اشتراعية ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أي عمل آخر، لم يتضمن أي قواعد تنظّم مسألة نصاب انعقاد جلسة الانتخاب، وان ذلك لم يحصل نتيجة «الهفو» أو «السهو» أو «عدم الوضوح»، إذ ان الدستور الذي تطرّق لهذه المسائل بشكل صريح في مسائل أقلّ أهمية بكثير عن مسألة انتخاب الرئيس، ما كان ليُغفل التطرّق إليها في مسألة بحجم انتخاب الرئيس لو كان ثمة حاجة لذلك، على ما سنوضحه في الفقرة التالية.

فقرة ثانية: النتائج المترتبة على الطبيعة القانونية لمسألة انتخاب الرئيس

كما سبق وأوضحنا في الفقرة السابقة فان عدم تضمن الدستور اللبناني أي نص صريح يتعلّق بنصاب انعقاد جلسة انتخاب الرئيس، لم يكُن على سبيل الهفو أو السهو أو عدم الوضوح، بل ان مردّ ذلك هو الطبيعة القانونية لمسألة انتخاب الرئيس التي فرضها الدستور كواجب دستوري ليس فقط على المجلس النيابي مجتمعاً بل على كل نائب منفرداً أيضاً، فاستعمل المجلس العبارات في المواد 73 و 74 و75 منه « يلتئم المجلس»… و«يجتمع حكماً»… «يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون»… «ان المجلس الملتئم»، فمن الملاحظ تكرار كلمة «المجلس» عدة مرّات في كل إشارة الى اجتماعه أو التئامه، أي ان الدستور باستعماله كلمة المجلس في هذه المواد كان يقصد مجموع النواب أي كامل أعضاء المجلس النيابي، لا الأغلبية المطلقة ولا أغلبية الثلثين، أي ان الدستور قد فرض فرضاً على كامل أعضاء المجلس النيابي المشاركة في جلسة انتخاب الرئيس ورتّب نتيجة دستورية باعتبارهم حاضرين حكماً وأن تغيّبوا، بالنظر لكون هذه المسألة هي واجب دستوري يتعلّق تحديداً بانتظام عمل كل سلطات الدولة ومؤسساتها الدستورية.

 

ان ما يعزّز الوجهة المتقدمة بل وحتى يؤكدها هو ما ورد مثالً في نص المادة 77 من الدستور التي أعطت لمجلس النواب صلاحية إعادة النظر في الدستور، فنصّت هذه المادة على إمكانية إعادة النظر وليس على واجب إعادة النظر فأتى مستهلّها كما يلي «يُمكن أيضاً إعادة النظر في الدستور بناًء على طلب مجلس النواب…».

وطالما ان اعادة النظر بالدستور ليست واجباً دستورياً بل «صالحية» أي حق يُمكن للمجلس ممارسته أو عدم ممارسته بخالف الواجب الدستوري، أتى الدستور بنصوص صريحة ليُنظّم مسألة انعقاد جلسة تعديل الدستور فنصّ في مادته رقم 79 انه لتعديل الدستور لا يُمكن أن يتمّ «ما لم تلتئم أكثرية مؤلّفة من ثلثيّ الأعضاء الذين يؤلّفون المجلس قانوناً ويجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها»، والملاحظة الأساسية التي يُمكن تسجيلها ان الدستور في مسألة انتخاب الرئيس ينص على التئام كامل المجلس حكماً وليس على إمكانية التئام أغلبية منه جوازياً سواء أكانت أغلبية عادية أو موصوفة.

ان الالتئام أو الاجتماع الحكمي للمجلس النيابي لانتخاب الرئيس، لا يُمكن أن ينفض إلّا بتحقيق الغاية التي حصل هذا الاجتماع من أجلها وهي انتخاب الرئيس ضمن الأغلبية المنصوص عليها في المادة 49 أي بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى, وبالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، بحسب حرفية نّص المادة 49 التي لم تتحّدث عن عدة جلسات انتخاب بل عن دورة أولى ودورات تالية وهي بالأصح دورات متتالية في ذات الجلسة التي لا يُمكن أن تنفض بحكم القانون كما أسلفنا إلّا بانتخاب الرئيس.

ان دورة الانتخاب الأولى هي دورة واحدة، وان حصل رفع للجلسة من قبل رئيس المجلس بعدها مباشرة لأي سبٍب كان، مع تأكيدنا انه لا مجال لختم الجلسة بحسب الدستور إلّا بعد انتخاب الرئيس وليس نتيجة عدم نيل أي شخص تمّ التصويت له الأغلبية المطلوبة في هذه الدورة او تلك، كما ان كل الدورات التي تلي تلك الدورة الأولى تدخل في مفهوم الدورات التالية وليس العودة الى دورة أولى من جديد في كل مرة تُرفع فيها الجلسة، أّما ما يتم الاستناد أليه من أجل إقفال محضر الجلسة عبر تطبيق المادة 55 من قانون النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص من ضمن ما نصت عليه على انه «إذا رُفعت الجلسة قبل الانتهاء من مناقشة موضوع ما، حقّ لرئيس المجلس إعلان الجلسة مفتوحة، والجلسات التي تُعقد فيما بعد لاستكمال البحث تُعتبر استمراراً للجلسة الأولى»، فهو لا يتوافق مع نصوص المواد 49 و73 و74 و75 من الدستور اللبناني، فجلسة انتخاب الرئيس تبقى مفتوحة حكماً بقوة الدستور، ومتابعة المناقشات أو التصويت من حيث انتهت أي جلسة سابقةً مسألة وجوبية بقوّة الدستور كما سبق وأسلفنا، وهذه الجلسة لا تنفض إلّا بتحقيق النتيجة المتمثّلة بانتخاب الرئيس وليس مجرد التصويت لانتخاب الرئيس في دورة واحدة أو أكثر، وهي بالتالي ليست مسألة جوازية تخضع لأحكام المادة 55 من قانون النظام الداخلي لمجلس النواّب.

الخلاصة

ان مقاربة جلسة أو جلسات انتخاب الرئيس وانعقادها أو انفضاضها بالاستناد الى توفّر النصاب اللازم لصحة انعقاد الجلسة، يجد سنده الواقعي في الممارسة الحاصلة في المجلس النيابي في أكثر من استحقاق لانتخاب رئيس للجمهورية منذ العام 2007 وحتى اليوم، إلّا انه لا يجد أي سند في الدستور اللبناني بل على العكس فهو يُشكّل أحد أوجه اساءة تطبيق الدستور والخلط بين الواجب الدستوري والصلاحية الدستورية، وعبر تجريد عبارات الاجتماع او الالتئام الفوري وبحكم القانون للمجلس النيابي، التي لم يستعملها الدستور الاّ بموضوع بأهمية انتخاب رئيس الجمهورية، من أي فعالية قانونية والتعاطي معها كأنها مجرد عبارات لغوية لا قيمة أو تأثير قانوني ودستوري لها، في حين ان سياقها و الهدف من ايرادها واضح وهو عدم حصول شغور ولو لساعة واحدة في سدة رئاسة الجمهورية بسبب تعذّر انتخاب الرئيس، فهذا التعذّر أو بالأصح التعثّر الحاصل اليوم لا يقع في أي شكل من الاشكال ضمن الاحتمالات الدستورية بل هو واقع بفعل تفسير الدستور بطريقة تجرّد نصوصه من أية فعالية وتُخضع انتظام الاستحقاقات الدستورية لمه ّب رياح التجاذبات السياسية من اي جهة أتت، خاصة ان معظم الافرقاء السياسيين تحدثوا عن خيار تعطيل جلسة الانتخاب في حال كانت نتيجة التصويت المتوقعة تؤشر الى فوز مرشّح غير المرشّح الذي يحظى بتأييدهم، وبالتالي فان المطلوب أولا من أجل انتخاب رئيس للجمهورية ليس التوافق على الاسم بل التزام جميع السادة النّواب بتطبيق الموجبات الدستورية الملقاة على عاتقهم والتي تفرض أن يكون للبنان رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء أي عهد رئاسي وفق المهل المحددة في المادة 73 من الدستور اللبناني، ووضع حدّ للشغور الحاصل حالياً بفعل خرق تلك المادة نتيجة تخطي المهل المحددة فيها، والاجتماع فوراً لانتخاب رئيس تفعيلاً لأحكام المادة 74 منه.