ليست صدفة أن تأتي زيارة المبعوث الأميركي الخاص عاموس هوكشتين لبيروت، بعد ثلاثة أسابيع دموية ارتكب خلالها العدوّ المجازر وهجَّر مئات الآلاف ودمّر المباني، وأوغل في القتل والاغتيال والتهجير. فقد كانت الإدارة الأميركية تراهن على نجاح الهجوم الإسرائيلي في تهيئة الأرضية لإعادة إنتاج واقع سياسي استراتيجي يلبّي مخططاتها في لبنان والمنطقة، عبر إعادة إنتاج سلطة معادية للمقاومة ضدّ العدوّ الإسرائيلي، ومنع إعادة تعافيها وتطويرها، وتقديم ذلك على أنه البديل الوحيد من استمرار الحرب. وقد دفعت الثقة بنجاح هذه الرهانات الى رفع شعارات وأهداف وشروط عالية السقف، من قبيل تغيير الواقع الأمني في الشمال وتغيير الشرق الأوسط، وصولاً الى دعوة نتنياهو خصوم المقاومة في لبنان إلى استغلال فرصة الحرب الإسرائيلية للانتفاض على حزب الله.
لكن الواقع أن هوكشتين أتى في ظل واقع ميداني مغاير. فلا المقاومة انهارت ولا ضعفت إرادتها، مقابل اتساع ضرباتها وتطور قدراتها. كما ان المفاوض الرسمي اللبناني اسمعه ردوداً لا تلبّي المطالب الإسرائيلية. وتم الالتفاف على مطلب تعديل القرار 1701، عبر الحديث عن وثيقة تفاهمات تُغني عن إصدار قرار جديد قد لا يكون ممكناً في هذه المرحلة، مع رهان إسرائيلي على إمرار العديد من المطالب التي يطمح إليها ضمن ما يُسمّى تفاهمات «آليات التنفيذ».
في المقابل، حدّدت المقاومة هدفاً مباشراً، بعيداً عن أيّ اعتبارات أخرى مهما كانت، وهو وقف الحرب على لبنان بدون شروط التفافية، على أن تُعبّر بعدها عن مواقفها إزاء مختلف القضايا المطروحة. وأحد أهم الشعارات التي تحكم حركتها، كما قال الرئيس نبيه بري، هو أن «ما لم يأخذه العدو بالنار لن يأخذه بالسياسة».
أهداف العدو وطموحاته من الحرب يعبّر عنها قادته بشكل صريح، وفي هذا المجال، قدَّم المبعوث الخاص لرئيس حكومة العدو رون ديرمر، الى البيت الأبيض وثيقة مبادئ لحل ديبلوماسي تشتمل على «التنفيذ الفعال» للتأكد من أن حزب الله لن يعيد بناء بنيته التحتية العسكرية بالقرب من الحدود، والمطالبة بحق إسرائيل بحرية عمل سلاح الجو في الأجواء اللبنانية.
لكن الاخطر، بحسب ما كشفته صحيفة «هآرتس»، يتصل بشرط العدو لإنهاء حربها على لبنان، «تعيين رئيس جديد معتدل للبنان»، وان يعمل على «إبعاد حزب الله عن مواقع القوة في الدولة ويعزز قدرة الحكومة في إنفاذ قرارات ضد حزب الله». لكن «هآرتس» تقول بأن إسرائيل تخشى من أنّ مجرّد تعيين أيّ رئيس جديد للبنان لن يكون كافياً لمنع تعاظم قوة حزب الله مجدداً، لأن إيران “ستمده بالأموال الكثيرة لترميم قوته، الأمر الذي سيُمكنه من التأثير على شخصيات مركزية في لبنان».
ما كان يُحذّر منه قادة العدوّ وخبراؤه بدأوا يتلمّسون التورّط به بعد تحوّل الحرب إلى حرب استنزاف مفتوحة ساحتها كل الشمال
ما سبق، من شانه توضيح الصورة لمن لا يزال لديه بعض الغموض، حيث تستهدف الحرب أهدافا سياسية استراتيجية شبيهة لما حصل في العام 1982، لكن بتكتيكات وأدوات مختلفة بفعل تغيّر معادلات القوة. ويبدو واضحا أن هذه الأهداف تحاكي فرضية نجاح العدو في حربه على لبنان. أي أنّ ما يتم طرحه يبنى على فرضية تحقيق مصالح إسرائيل. لكن الوقائع الميدانية تتطور باتجاهات مغايرة لما خُطّط له وتمت المراهنة عليه. وكلما امتدّ الوقت ستكتشف إسرائيل أنها أوقعت نفسها في مأزق سيتفاقم مع تواصل ضربات حزب الله في العمق الإسرائيلي وتصاعدها. وهو أمر يفرض على واشنطن وتل أبيب تسريع ضغوطهما السياسية والعسكرية لاستثمار الضربات الكبيرة ضد المقاومة.
اللافت، هو أن ما كان يُحذّر منه قادة العدوّ وخبراؤه، بدأوا يتلمسّون التورط فيه، مع الانتقال الى حرب استنزاف مفتوحة، ولا تقتصر ساحتها على مستوطنات حدودية، بل تطال كل الشمال، وصولاً الى حيفا، إضافة الى وسط الكيان، وصولاً الى تخوم مدينة تل أبيب… حتى الآن.
ما يهمّ في هذه المعركة هو نتائجها النهائية التي سترسم مستقبل لبنان والمنطقة، ولن يطول الوقت حتى نشهد المزيد من الصراخ للمتناغمين مع إسرائيل في الداخل والخارج، خيبةً وفجوراً. وكلما مرّ الوقت سيتّضح أكثر فأكثر أنه كلما امتدت الحرب ستتراجع معها احتمالات تحقيق الأهداف الاستراتيجية، وسترتفع معها الأثمان التي ستدفعها قوات الاحتلال في البرّ، اضافة الى خسائر العمق الاستراتيجي. وكلما تبلورت هذه المعادلة أكثر فأكثر تهيأت الأرضية لإرغام قادة العدو على التكيف مع الوقائع الميدانية وما يتلاءم معها على المستوى السياسي. مع ذلك، لا ينبغي أن يغيب عن بالنا حصول متغيرات محسوبة أو غير محسوبة تؤثر في مسار الأحداث، من ضمنها بشكل خاص المسار الإيراني – الإسرائيلي والانتخابات الأميركية…