لن ينتظر الرئيس ميشال عون الانتخابات النيابية ونتائجها لفتح المعركة الرئاسية خشية من أي تأخير يفقده زمام المبادرة في استحقاق لطالما شَكّل، بالنسبة إليه، أولوية الأولويات.
إقتحم الاستحقاق الرئاسي المشهد السياسي على رغم الحكومة المجمّدة والمعطلة بسبب إصرار «حزب الله» على منع انعقاد جلساتها قبل ان تتدخّل خلافاً لصلاحياتها ودورها مع السلطة القضائية لكفّ يد المحقِّق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وعلى رغم الأزمة المالية المتفاقمة والتدني المتواصل في سعر الليرة وغياب الحلول لهذه الأزمة، وعلى رغم تفاقم غضب الناس بسبب أوضاعها المعيشية والحياتية وتبدّل نمط عيشها، وعلى رغم انّ الأنظار مشدودة باتجاه الانتخابات النيابية كمحطة مفصلية بفعل التحولات التي شهدتها البلاد، بدءا من الثورة الشعبية، وصولا للانهيار الحاصل، وتطلُّع الناس إلى هذه الانتخابات كمناسبة تغيير فعلية وحقيقية.
ففي الوقت الذي يجب ان تكون الأولوية لمعالجة الأزمات الحياتية المتفاقمة من خلال ورشة حكومية مفتوحة ومتواصلة، وإبقاء الأنظار مركزة على الانتخابات النيابية التي تشكل مطلبا شعبيا عارما وتفتح باب التغيير لإعادة إنتاج سلطة جديدة على أثر التحولات التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، أدخل الرئيس عون الاستحقاق الرئاسي إلى صلب الفضاء السياسي والإعلامي كونه يشكل همّه الأول، خصوصا انه يفتقد إلى 4 أوراق أساسية:
– إفتقاده الورقة الشعبية عموما والمسيحية خصوصا في ظل اعتبار الناس ان نهاية ولايته تشكل نهاية للأزمة القائمة أو بداية للخروج من هذه الأزمة، ولا يمكن للرأي العام الذي يحمِّل العهد الحالي، عن خطأ او صواب، مسؤولية ما آلت إليه أوضاعه وأوضاع البلد، أن يقبل بأي تمديد لهذا العهد مباشرة من خلال عون او مداورة عن طريق النائب جبران باسيل، لأن التمديد مباشرة أم مداورة هو تمديد لأزماته.
– إفتقاده ورقة «حزب الله» التي شكلت رافعة أساسية في انتخابه مع رفع الحزب معادلة «إما عون وإما استمرار الفراغ الرئاسي»، حيث من الواضح ان الحزب ليس في وارد، حتى الآن أقله، تكرار هذه التجربة التي تواجه برفض شعبي وسياسي وشيعي تحديداً يبدأ من داخل بيئته ولا ينتهي مع موقف الرئيس نبيه بري الرافض بشدة هذا الخيار الذي واجهه مع عون ولن يتساهل به مع باسيل.
– إفتقاده الورقة السياسية مع غياب اي حليف موضوعي له مسيحيا وسنيا وشيعيا ودرزيا قادر على تزكيته ودعم خياره الرئاسي ليس فقط بسبب الخلافات العميقة مع القوى السياسية، إنما بفعل تجنُّب هذه القوى أيضا دعم خيار غير شعبي.
– إفتقاده الورقة الخارجية مع العقوبات الأميركية على باسيل ووصول العلاقات الخليجية مع لبنان إلى مستويات غير مسبوقة من الانقطاع والتردي واتهامه بانه ألغى مساحة الفصل بين الدولة و»حزب الله» بعدما أفسح للأخير التمدُّد على كامل الدولة ومؤسساتها. والموقف الدولي الحاسم من العهد لا يلغي محاولات الأخير استخدام ما يملكه من أوراق من أجل تغيير هذا الموقف، بدءا من ورقة الترسيم، وصولا إلى ورقة كلامه عن ضبطه للحزب ضمن ثلاثية احترام القرار 1701 وعدم التعدي على بعثات الدول التي تصنِّفه بالإرهابي والحفاظ على الاستقرار.
ويخطئ من يتوقّع ان يتراجع الملف الرئاسي في سلُّم الأولويات، بل من المرجّح ان يبقيه العهد من الآن فصاعدا في طليعة الاهتمامات بسبب شعوره للأسباب أعلاه وغيرها ان عهده سينتهي بعد أقل من سنة من دون ان يتمكّن من الاحتفاظ بموقع الرئاسة الأولى تمديدا أو تجديدا او استمرارا من خلال باسيل، وهذا ما يفسِّر فتحه المواجهة باكرا في محاولة لتخيير «حزب الله» بين ثلاثية تبني ترشيح باسيل او التمديد او انتقال «التيار الوطني الحر» من موقع الحليف إلى موقع الخصم.
ويبدو ان الرئيس عون مصمِّم على عدم ترك موقع الرئاسة الأولى قبل ان يضمن من سيخلفه في هذا الموقع، وهذا ما يفسِّر كلامه عن رفضه تسليم الفراغ في حالتي عدم تمكُّن مجلس النواب من انتخاب البديل، وغياب حكومة أصيلة لا حكومة تصريف أعمال، ومن ثمّ حديثه عن رغبته بالتمديد نزولاً عند رغبة مجلس النواب، علما انه لو كان حريصا على الدستور وساهرا على تطبيقه لكان رَفض التمديد صدر عنه مباشرة لا من عند غيره تماماً كما فعل الرئيس فؤاد شهاب الذي رفض اقتراحا بغالبية نيابية لتمديد ولايته.
وبما انّ انتخاب باسيل لن يحصل، فإنّ الرئيس عون لن يتردّد في البقاء في القصر الجمهوري خلافاً للدستور بحجة عدم انتخاب رئيس وحكومة غير مكتملة الأوصاف وتصريف للأعمال في الرئاسة الأولى شأنها شأن ما يحصل في الرئاستين الثانية والثالثة، وخطوة من هذا النوع ستفاقم الاحتقان الشعبي والانقسام السياسي وتعطِّل العمل المؤسساتي بشكل كامل وتدخل البلد في أزمة نظام فعلية لا يمكن الخروج منها سوى بمؤتمر دولي يبحث الأزمة اللبنانية ويرعى الاتفاق اللبناني-اللبناني على الخروج منها.
ويُمسك الرئيس عون باليد التي تؤلم «حزب الله» في ملفي الغطاء المسيحي والمؤتمر الدولي من باب التحلُّل المؤسساتي، خصوصاً ان الانهيار الذي انزلقت إليه البلاد أفقد الحزب القدرة على المناورة والمبادرة، حيث أقفلت في وجهه كل الخيارات والاحتمالات، فلا هو قادر على إخراج لبنان من أزمته، ولا قادر على الإمساك بالبلد، ولا قادر على مجاراة عون ولا مواجهته، خصوصاً ان حليفه رئيس الجمهورية أضاف إلى أزمات الحزب القضائية والحكومية والنيابية والشعبية الأزمة الرئاسية.
ولا تقلّ أزمة «حزب الله» الذي يعيش انهيار مشروعه وعدم قدرته على إنقاذه، عن أزمة عون الذي دخل إلى رئاسة الجمهورية في وضع مختلف كلياً عن خروجه من هذا الموقع، ولكنه لا يأبه لذلك، وسيستخدم كل الطرق والوسائل من أجل ان يحتفظ بهذا الموقع، ما يعني دخول البلاد في أزمة جديدة كفيلة لوحدها من دون الأزمات الأخرى المالية والحكومية والقضائية بتسخين الوضع ومزيد من شلّ المؤسسات، لأنّ أصحابها لن يتوانوا عن أي شيء تحقيقاً لهدفهم الذي أصبح هذه المرة بعيد المنال كلياً.
والسؤال الذي يطرحه البعض هو حول مدى قدرة البلاد على الصمود حتى الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً في ظل الجمود الحكومي والأزمة المالية المتدحرجة واستحقاق نيابي سيفاقم من أزمة العهد وحليفه «حزب الله» في حال إتمامه أو عدمه، لأنّ حصول الانتخابات يعني فقدانه للأكثرية النيابية والمسيحية، وعدم حصولها يعني سقوط الشرعية المؤسساتية ودخول البلاد في فوضى دستورية على غرار الفوضى التي دخلتها مع حكومة عون الانتقالية في العام 1988.