لا يبدو إصرار بعض الأطراف السياسيّة اللبنانيّة على استيلاد حكومة جديدة «ولو في الأسبوع الأخير للعهد» بريئاً، ولو أنه غُلّف في إطار من احترام الدستور، الذي قلّما اهتمّت له تلك القوى عندما دعمت حلفاءها في تعطيل مفاعيله وفي إطالة أمد الفراغ الرئاسي أو الحكومي لشهور وسنين طويلة في حقبات سياسيّة سابقة!
وإذا كانت تلك القوى تريد فعلاً ألّا تنزلق البلاد إلى أزمة دستوريّة باتت تباشيرها تلوح في الأفق على وقع تصريحات رئيس الجمهوريّة وتيّاره السياسي في حال انقضاء المهلة الدستوريّة دون انتخاب رئيس جديد؛ فإن الحريّ بها هو صرف «نفوذها» وتكريس جهودها لتسهيل عمليّة الانتخاب ضمن المواقيت المحددة بما يتيح إنتقالاً سلساً للحكم ويضع حداً لحقبة «المغامرات العونيّة» التي كلّفت البلاد منذ العام 1990 تكاليف سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة ودستوريّة باهظة.
كلام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الأخير الذي نصح فيه رئيس الجمهوريّة أن يغادر القصر «كبيراً» كما دخله كبيراً، إنما يعكس حرص بكركي على الموقع الأول في الدولة وعلى الدستور وعلى انتظام العمليّة السياسيّة. صحيحٌ أن سيّد بكركي يحاول تغليف بعض مواقفه برداء الديبلوماسيّة، إلا أنّ الأهداف والمرامي واضحة ولا تحتمل أي إلتباس: لا لبقاء الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا لدقيقة واحدة من بعد منتصف ليل 30 تشرين الأول المقبل.
ولعلّ هذا الموقف المهم والهادف يؤكد أن بكركي، التي وقفت في الماضي ضد إسقاط رئيس الجمهوريّة في الشارع (وهو موقف يحتمل النقاش السياسي الهادئ بعيداً عن الإعتبارات الطائفيّة أو المذهبيّة)، ترفض اليوم أن «يغتصب» شاغل الموقع نفسه – أي رئيس الجمهوريّة – المنصب بعد إنتهاء ولايته الدستوريّة.
للتذكير، حتى إميل لحود لم يفعلها! لقد «قاوم» الرجل كل الضغوطات السياسيّة والشعبيّة التي مورست ضده كي يرحل، ولم يكترث للمزاج الشعبي الذي عارض التمديد له، أو للإضطراب السياسي الذي تولّد بعد زلزال إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بقي في القصر وحيداً، معزولاً، لا يزور ولا يُزار. ولكن، مع كلّ ذلك، غادر القصر لحظة انتهاء ولايته القسريّة الممدّدة، ولم «يغتصب» السلطة.
نعم، بقاء رئيس الجمهوريّة في القصر بعد إنتهاء ولايته الدستوريّة، بمعزل عن المبرّرات التي يمكن أن تُساق في إطار الدعاية السياسيّة ولو أُلبست لباساً دستوريّاً فضفاضاً، هو بمثابة إغتصاب للسلطة وللكرسي، ويرقى إلى مستوى الخيانة العظمى التي تستحق المحاكمة.
لا يُحدّد الدستور شكل الحكومة التي تنتقل إليها صلاحيات الرئيس في حال الشغور الرئاسي، ولا يُفصّل هويّتها أو طبيعتها أو تكوينها، أو ما إذا كانت فاعلة أم مستقيلة. يكتفي الدستور بالإشارة إلى الحكومة القائمة. ووفق مبدأ إستمرارية المرفق العام، تتولّى الحكومة الراهنة هذه الصلاحيّة دون إلتباس يُذكر.
بطبيعة الحال، سوف يتوسّل تيار العهد وأبواق الرئاسة كل الأساليب الديماغوجيّة التي تصحّ للاستهلاك الشعبوي، وهو ما مورس من قبل هؤلاء على مدى كل السنوات الماضية. ولن تخلو المقاربة الديماغوجيّة إيّاها من اللمسات الطائفيّة والمذهبيّة، وهو الوتر الذي لطالما لعب عليه التيار في مختلف المنعطفات الحسّاسة. ولكن، هذه الأدبيّات والأساليب لم تعد تنطلي على اللبنانيين الذين سئموا تلك الممارسات الخارجة عن الدستور والأصول والأعراف.
المطلوب من العهد وتيّاره الإقرار بالفشل الذريع، والعودة الهادئة والهانئة إلى الرابية، ولا ضير من أن يتخللها بعض الإستعراضات الفولكلوريّة بمواكبة من فرق «الدبكة» و»الخيّالة» إرضاء لجمهوره أو من تبقّى منه. ليس سهلاً أن يدخل جنرالاً منتصراً إلى بعبدا، ويخرج منها بعد ست سنوات مهزوماً، وقد هزم معه لبنان بأكمله عبر قيادته إلى «جهنم»!