Site icon IMLebanon

الانتخابات الرئاسية باتت مكلفة للبنان بسبب إخضاعها للتسويات والصفقات والابتزاز

إذا كان تشكيل الحكومات يواجه غالباً أزمات تطول وتقصر، فإن الانتخابات الرئاسية لم تكن تواجه ما تواجهه اليوم لأن عنصراً جديداً أُدخل عليها وهو اعتقاد كل نائب أن من حقه التغيّب عن جلسة الانتخاب حتى من دون عذر شرعي، وهذا الحق يمارس للمرة الأولى ولم يحسم الخلاف في شأنه لا في هيئة مكتب المجلس ولا في هيئته العمومية كما حسم الخلاف حول وجوب حضور ثلثي النواب جلسة انتخاب الرئيس، فصار حق التغيّب سلاحاً في يد أي حزب أو تكتل يلجأ اليه لتعطيل الانتخاب إذا لم يضمن فوز من يريده رئيساً… وكأن لبنان لا تكفيه أزمات تشكيل الحكومات حتى تضاف إليها أزمة جديدة عند انتخاب رئيس للجمهورية. وهكذا أصبحت رئاسة الجمهورية في لبنان مكلفة للبنانيين عموماً وللموارنة خصوصاً وخاضعة لسياســــة التسويــــات والمساومات والالتزام والصفقات، وهي سياسة كانت تسبق في الماضي انتخاب الرئيس لكنها لم تكن تعطل هذا الانتخاب احتراماً لقدسية موعد انتخابه ضمن المهلة كما حددها الدستور.

وفي الماضي كان رئيس الجمهورية ينتخب بعد اتفاق داخلي وخارجي، فكان القبول بانضمام لبنان الى جامعة الدول العربية خلافاً لمبدأ “لا شرق ولا غرب” شرطاً لتأييد هذا المرشح أو ذاك. وكانت بريطانيا يومئذ وراء هذا الشرط لكي تبسط نفوذها في كل المنطقة العربية من خلال الجامعة، ولو لم يقرر لبنان الانضمام اليها لكان خطاً أول خطوة على طريق الحياد, ولما كان يعاني ما يعانيه حتى الآن من جراء تورطه في صراعات المحاور على أرضه. وقد تعرّض حكم الرئيس الشيخ بشارة الخوري لـ”ثورة بيضاء” أسقطته وكان من أسبابها “مشروع الدفاع المشترك”. وتعرّض حكم الرئيس كميل شمعون أيضاً لأحداث 58 الدامية بسبب قبوله بانضمام لبنان الى “حلف بغداد” في مواجهة دول عربية مناهضة لهذا الحلف، ثم قبوله أيضاً بـ”مبدأ ايزنهاور” علّه يحفظ الأمن والاستقرار فيه. ولم يخرج لبنان من أحداث 1958 إلا بعد الاتفاق على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وكان انتخابه بداية انحسار النفوذ البريطاني في المنطقة وتقدم النفوذ الأميركي. وواجه حكم الرئيس شارل حلو مشكلة أول دخول فلسطيني مسلح الى الجنوب عبر منطقة العرقوب التي عرفت بـ”فتح لاند”، وأدى الانقسام بين أعضاء الحكومة الرباعية حول مواجهة هذه المشكلة الى استقالتها واندلاع حرب لبنانية – فلسطينية ما لبثت أن أصبحت حرباً لبنانية – لبنانية سمّاها عميد “النهار” غسان تويني “حرب الآخرين” على أرض لبنان.

ويمكن القول إن أول رئيس للجمهورية انتخب من دون شروط مسبقة داخلية وخارجية هو سليمان فرنجيه الذي حاول أن يوازن في تعاطيه بين ما كان يسمى “النهج الشهابي” ومناهضي هذا النهج. لكنه أبى أن تبقى الدولة منقوصة السيادة والسلطة بسبب فلتان السلاح الفلسطيني، فقرر التصدي لهذا السلاح، فكانت “حرب المخيمات” التي ساندت فيها دول عربية الجانب الفلسطيني وهددت بإغلاق الحدود مع لبنان إذا لم تتوقف، ثم كان اجتياح اسرائيل للجنوب الذي بلغ العاصمة بيروت ما أخضع لبنان لعصر إسرائيلي عابر انتهى باخضاع لبنان لعصر سوري طويل الأمد بعد شرعنة اتفاق الطائف. ومن حينه لم يعد ينتخب رئيس للبنان إلا بموافقة الحكم في سوريا، ولا يتم تشكيل حكومات فيه إلا بموافقة هذا الحكم، ولا حتى إجراء انتخابات نيابية إلا على أساس قوانين مفصلة على قياس الموالين له في لبنان.

وكان شرط اختيار رئيس الجمهورية هو القبول باستمرار الوصاية السورية على لبنان ببقاء القوات السورية حتى بعد تجاوز المدة المحددة في اتفاق الطائف، وأن يتضمن بيان كل حكومة العبارة “المقدسة” وهي أن وجود هذه القوات هو “ضروري وشرعي وموّقت”، وعندما اختار الحكم في سوريا الياس الهراوي رئيساً للجمهورية فلأنه وافق على ما لم يوافق عليه مرشحون آخرون وهو إخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا بالقوة إذا لم يخرج منه طوعاً.

ولم يستطع لبنان الخروج من أزمة الانتخابات الرئاسية حتى بعد انسحاب القوات السورية منه إلا بانتفاضة شعبية عرفت بـ”ثورة الأرز” وبعد اتفاق الدوحة الذي فُرض على كل القادة في لبنان وإن مخالفاً للدستور. ويواجه لبنان اليوم أزمة انتخابات رئاسية لم يواجهها في تاريخه لأن المطلوب انتخاب رئيس يكون مقبولاً من 8 و14 آذار، ومن إيران والسعودية ومن أميركا وروسيا، وأن يكون أقرب الى الخط السياسي الإيراني ومع “جبهة الممانعة” وسلاح “حزب الله”. وعلى كل حكومة أن تضمّن بيانها الوزاري العبارة “المقدسة” وهي: “الجيش والشعب والمقاومة”، أي أن نظل في لبنان دولة شرعية والى جانبها دولة غير شرعية تقاسمها السلطة وتفرض نفسها كأمر واقع الى أن تزول أسباب وجودها وإلا استمر الشغور الرئاسي الى أجل غير معروف، لتصبح الأبواب مفتوحة لفوضى عارمة تذهب بلبنان الى المجهول، حتى إذا ما فُتح باب تعديل الدستور لا تبقى رئاسة الجمهورية حكراً للطائفة المارونية بل مفتوحة لكل الطوائف، وتتحمل الطائفة المارونية مسؤولية خسارة هذا المنصب لعدم التوصل كل مرة إما الى اتفاق بين زعمائها، وإما الى موافقة كل المرجعيات بشروطها المتعارضة، مع أن الزعماء الموارنة ليسوا من يتحمل وحدهم المسؤولية بل كل من خالف الدستور وعطّل جلسات الانتخاب بتغيّبه من دون عذر شرعي.