لم تكن يوماً الانتخابات الرئاسية في لبنان حدثاً عادياً أو معضلة يسهل حلّها، بل في غالب الأحيان كانت تخضع لحسابات وتجاذبات يمتزج فيها الخارج مع الداخل، فتعمل مصالح الدول الخارجية على تأجيج الانقسامات الداخلية، وتمنع من إتمام الاستحقاق إلّا إذا توافقت النتائج مع رغباتها. ومن المضحك المبكي أن كل الأطراف الداخلية اللبنانية تعي كل هذه المشاكل وتفهم تداخل اللعبة الخارجية مع الداخل، وبالرغم من ذلك فهي تستمر بتمثيل دورها على أكمل وجه، فالمسرحية كبيرة وخطيرة بحيث أن لا أحد من اللاعبين يستطيع «تغيير اللعبة»، أو حتى الخروج عن النص المكتوب. ومع دخول الفراغ الرئاسي شهره الحادي عشر ورغم تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية والتي انعكست سلباً على حياة المواطنين، وبالرغم من حالة الحرب الجاثمة على الحدود الجنوبية والتي تهدّد بالتمدد في كل لحظة، لم يشعر اللبنانيون أن شيئاً ما تغيّر في إداء المسؤولين والمعنيين بالقرار السياسي، بل إن حال المراوحة بقي سيد الموقف وكأن الجميع قد اعتاد على الفراغ وعلى استمرار أزمة الحكم. وإلّا كيف نفسر خلو المشهد السياسي الداخلي من أية مبادرة جدية للخروج من عنق الزجاجة، فبقيت كل الأطراف متمترسة وراء مواقفها التي أعلنتها بُعيد مغادرة الرئيس عون قصر بعبدا في الثلاثين من أكتوبر من العام 2022. وإذا كان مفهوماً أن التمترس وراء المواقف كان مفهوماً في بداية الأزمة، فإن ذلك بات يشكّل عبئاً إضافياً على اللبنانيين الذين لم تثقل كاهلهم فقط الأزمات المعيشية، إنما زادها حدّة انسداد الأفق السياسي وبات الناس محرومين حتى من الاستمتاع بالأحلام الجميلة، فكل شيء بات يسير بخطى متسارعة نحو المجهول.
الخارج مشغول بحاله
وبالرغم من أحداث المنطقة الجسام وبالرغم من حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ حوالي الأحد عشر شهراً، وذلك رغم المناشدات الدولية والمبادرات الساعية لوقف الحرب والدخول في هدنة، فإن كل ذلك لم ينفع بشيء ولم يؤدِّ إلى أية نتيجة فاستمرت الحرب واستمرت معها أزمات المنطقة، وكأن الدول الساعية لحلّها تقف عاجزة عن فعل شيء ملموس لذلك. لقد بات من الواضح أن الدول الكبرى منشغلة بمشاكلها الكبيرة، فأميركا مشغولة بانتخاباتها الرئاسية، والدول الأوروبية أعجز من أن تدخل في تسوية بغياب العامل الأميركي، لذا وُضعت كل الحلول في ثلاجة الانتظار، وبات عنوان المرحلة «لا حل ولا انفجار» لا حرب ولا سلام. وهكذا دخلت المنطقة برمّتها في ستاتيكو مجهول النهاية، مع انعدام الحلول المرتبطة بعوامل خارجية بعيدة كل البُعد عن مصالح الدول المعنية، لا سيما الدول الصغيرة التي باتت خائفة من أن تأتي الحلول على حسابها، وأصبح لبنان الدولة الأضعف في عين العاصفة، قلقاً من أن يتحوّل إلى «فرق عملة» بين الدول الكبرى والدول الإقليمية. ولبنان الغائب سياسياً والمنقوصة شرعيته، لا يمكن أن يتصدّى لكل هذه المخاطر وبالتالي فإن الفراغ في رأس الهرم السياسي، بات يشكّل خطراً وجودياً يتهدّد ليس فقط الشعب اللبناني إنما لبنان كدولة حرّة مستقلة ذات سيادة.
الداخل يمارس لعبة التباكي واللامبالاة
وإذا كان الخارج مشغولاً بحاله وهو أعجز من ان يضع الحلول في المرحلة الآنية أقلّه، فما بال الداخل المعني الأول والمباشر والذي تقع على عاتقه كل الويلات والمصائب، ما باله لا يتحرك؟ لقد أصبح الجميع من رجال دين وسياسيين يحسن الوصف وكأنهم أصبحوا جميعاً من تلامذة إبن الرومي، وتبعاً لذلك أصبحوا من المتباكين على الأطلال، فهم يتباكون على صلاحيات الرئيس وحصة هذه الطائفة أو تلك في عظاتهم خطبهم. لقد آن الأوان أن يدخل الجميع في الحلول الجدّية لانتخاب رئيس للجمهورية، وعلى الجميع تلقّف مبادرات الحوار الداخلية الكفيلة وحدها بإيصال لبنان إلى بر الآمان، وكل ما عدا ذلك سيُعتبر كمن ينتظر «السمك في البحر».
* كاتب سياسي