أقرّ مجلس النواب الموازنة العامة التي لم تكن على قدر آمال الشعب اللبناني، إلّا أنها أعطت صورة عن قدرة مجلس النواب على الإجتماع في أي وقت وقيامه بالمهمة الأساسية الأولى المنوطة به وهي إنتخاب رئيس جديد للجمهورية. لم تلحظ الموازنة الإصلاحات التي يطالب بها الشعب اللبناني منذ انتفاضة 17 تشرين 2019، وصفر عجز يفاخر به رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يترافق مع صفر استثمار وإنتاج وتطوير وإصلاح.
ويُترك للإختصاصيين تشريح الموازنة، ولا يمكن فصل الملف الإقتصادي في لبنان عن الملف السياسي. وتدرك القوى السياسية أنّ بداية الإصلاح الإقتصادي تنطلق من انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة إصلاحية وإقرار القوانين اللازمة.
وإذا كان الداخل ينتظر ما ستقوم به اللجنة الخماسية، وكيف سيكون الدفع في اتجاه إتمام الإستحقاق الرئاسي بعد طرحها فصل المسار الرئاسي عن أحداث غزة، تشهد الساحة اللبنانية زحمة إتصالات ومحاولة خرق الجدار المغلق. ويأتي في الطليعة التحرّك الذي يقوده البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الذي سيواصل إتصالاته هذا الأسبوع، وهو على تواصل دائم مع «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحرّ» و»الكتائب اللبنانية» وباقي الأطراف المسيحية.
ولم يدخل الراعي مع القوى المسيحية حتى الساعة في لعبة الأسماء المرشحة، إذ تعتبر بكركي هذا الأمر من مهمة النواب، فعليهم غربلة الأسماء، فإما يتفقون على اسم، أو يذهبون بأسماء عدّة ولينتخب النواب من يرونه مناسباً للرئاسة. ويأخذ التحرّك الثاني طابعاً وطنياً وليس مسيحياً فقط، يقوده نواب كتلة «الإعتدال الوطني» بدعم عربي، وفي هذا الإطار ستلتقي الكتلة اليوم السفير المصري في لبنان علاء موسى للبحث في مبادرة «الاعتدال» وإعادة تفعيل الزخم الرئاسي.
وما يضع تحرّك نواب «الاعتدال» في إطار الجديّة هو منح الغطاء السعودي لحراكهم، ومن المتوقّع حصولهم على الغطاء المصري، وبالتالي يكتسب تحركهم شرعية عربية، ودعماً داخلياً. وجرت مناقشات جانبية بين «الاعتدال» وعدد من نواب الكتل الأخرى على هامش مناقشات الموازنة لتظهير المبادرة و»تقريش» التحركات نقاشات من أجل الاتفاق على مبادئ رئاسية.
وبعد التحرّك الدائم للبطريرك الراعي، وحراك نواب كتلة «الاعتدال الوطني»، يستعدّ الحزب التقدّمي الإشتراكي وكتلة «اللقاء الديموقراطي» لإطلاق جولة مشاورات رئاسية من دون طرح الأسماء، وهذه المشاورات لن تقتصر على الكتل الفاعلة، بل على المرجعيات الروحية كلها، وفي مقدمها البطريرك الماروني.
وإذا كان كلام النائب السابق وليد جنبلاط على أنّ شعار «لبنان أولاً» أثار سخطاً في الأوساط المعارضة، وأحدث «نقزة»، خصوصاً بمجيئه بعد العشاء الذي جمعه بمرشح «الثنائي الشيعي» رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، إلا أنّ المراقب لحراك جنبلاط يدرك تقصّده البوح بهكذا هفوات ليعود ويعتذر.
ويحاول جنبلاط القول «أنا هنا»، وهذه الرسالة موجّهة إلى الرياض والقاهرة ودول «الاعتدال العربي»، لأنّ هذه الدول هي التي دعمت شعار «لبنان أولاً» بعد انتفاضة 14 آذار. ويعبّر جنبلاط عن إنزعاجه لتراجع دوره واقتصار اللعبة على اللاعبين الكبار وحصرها بـ»القوات اللبنانية» والحلفاء من جهة، وبـ»حزب الله» والحلفاء من جهة أخرى، فأراد جنبلاط توجيه رسالة إلى القوى الداعمة للمعارضة للوقوف عند خاطره.
ولا تبدو الأجواء مهيأة لنجاح المبادرات الداخلية، فحرب غزة تسرق الأضواء من بقية الملفات. وإذا كانت اللجنة الخماسية تتحدّث عن فصل الساحات، يبقى القرار في يد إيران، خصوصاً بعد حصول تواصل إيراني- سعودي في ما خصّ الملف اللبناني. وتسقط كل محاولات «لبننة» الإستحقاق الرئاسي مع إعلان «حزب الله» والرئيس نبيه برّي تمسّكهما بترشيح فرنجية والدعوة مجدداً إلى الحوار، ما يعني في نظر المعارضة «تمييع» الملف الرئاسي وإدخاله في دهاليز الشروط والشروط المضادة.