لا شك بأنّ أسراراً كبيرة وكثيرة تختزنها حرب غزة. والأهم أنّ هذه الأسرار قد لا تتكشف قبل مضي وقت طويل وربما عقود من الزمن. أليست هذه دروس التاريخ حول الحروب العاتية التي عصفت بمفاصله ومراحل التحوّل التي شهدها؟
فلقد بات جليا أن المنطقة والى حد ما العالم يعيش مرحلة تحولات كبرى لا بد من التيقن لها. ومن هنا تصبح الأسئلة ملحة ولو أن أجوبتها لن تكون متوفرة الآن، بل ستدخل خزنة الأسرار، وسيجري إحكام إغلاقها الى فترة طويلة من الزمن، بانتظار مرحلة لا يعود فيها الكشف عن الأسرار مؤذيا وملهبا للعواطف ومدنسا للأخلاق.
ومن الأسئلة التي تبقى أجوبتها غامضة حتى الآن هو عن التوقيت الذي اختاره زعيم حركة حماس في غزة والقائد الفعلي لتركيبتها العسكرية يحيي السنوار لتنفيذ عملية “طوفان الأقصى”. إذ من المنطقي أن يكون اعتمد حسابات معقدة، وهو الذي ثابر على بناء مشروعه العسكري لمدة طويلة من الزمن، بكثير من التأني والجهد والكتمان، ما يجعله يختار توقيته وفق حسابات بأبعاد عدة. أضف الى ذلك ما بات معروفا بأن إيران ومعها حزب الله فوجئا باندلاع الحرب، وهو ما ظهر لاحقا باستياء مكبوت لم يسمح الوقت بعد لإظهاره. وهنا السؤال عن هوية صاحب الغطاء الخارجي الذي ركنت اليه حسابات السنوار؟.
والسؤال الثاني الملح حول ما إذا كان هنالك من رابط خفي بين حرب غزة والحرب الصعبة الدائرة في أوكرانيا، والتي للمناسبة تقفل عامها الدموي الثاني. وكان واضحا تأثير حرب غزة خلال الأشهر الماضية على مسار معاركها.
ويأتي السؤال الثالث الملح حول كيفية وصول الأسلحة والذخائر والتجهيزات حتى ولو كانت بدائية في معظمها، الى منطقة صغيرة جغرافيا من المفترض أن تكون محاصرة بحرا وبرا ومحكمة الإغلاق. ففلسطينيو الضفة الغربية حيث الحدود أوسع والظروف أقل صعوبة، لم ينجحوا بالحصول على القدرات التسليحية نفسها. لا بل أن المطاردة الأمنية نجحت في الحد من عمليات تهريب أسلحة فردية كانت تتولاها عصابات التهريب مقابل غض النظر عن نشاطها. وطالما أن السحر يبقى من عالم الخيال، فلا بد من البحث عن الجهة الفاعلة التي نجحت في خرق الحصار حول غزة وعن غايتها السياسية، خصوصا وأنه في عالم المصالح السياسية لا وجود للاعتبارات الأخلاقية والمبدئية في عالم السياسة والمصالح.
والسؤال الرابع حول ما إذا كان هنالك من أطراف متعددة أرادت اختبار ما كان بدأ يدور الهمس حوله، والمتعلق ببدء انحدار الزعامة الأميركية على العالم وتراجع قدراتها وهيمنتها، وبتعبير أدق دخولها مرحلة الشيخوخة. فإذا كانت حرب أوكرانيا قد أعطت إشارات في هذا الإتجاه، فإن حرب غزة أظهرت أن الضعف الأميركي هو على مستوى القرار السياسي لا على مستوى القوة العسكرية. والفارق كبير بين الإثنين، لا بل هو التباس قد يكون قاتلا.
وأخيرا وليس آخرا تلك الأسئلة المتعلقة بالصراعات الإسرائيلية الداخلية وسياسة غض النظر التي اعتمدها نتنياهو تجاه حركة حماس، وهو الذي وقف على خصومة واضحة وكبيرة مع الادارتين الأميركيتين لأوباما وبايدن واللتين سعتا لإسقاطه، في وقت لعب فيه إسرائيليو روسيا عاملا حاسما لصالحه.
وكي لا نغرق كثيرا في بحر التساؤلات والتحليلات والمرتكزة على أسرار لن يكشف عنها أقله في المرحلة الراهنة، قد يبدو من المفيد أكثر متابعة مسار الميدان في غزة وجنوب لبنان والحلول المطروحة. فلقد بات واضحا أن حكومة نتنياهو وضعت هدفا لها بمنع قيام “دولة” فلسطينية ولو صوريا، والإبقاء على سيطرة أمنية وعسكرية على غزة لمرحلة ما بعد الحرب. وأيا تكن الصيغة التي سيجري اعتمادها لرفح، إلا أن نتنياهو سينطلق لإخضاع الضفة الغربية وفق الاعتبار نفسه، أي السعي لإنهاء القضية الفلسطينية.
تبقى الجبهة الأهم والأكثر تعقيدا وهي جبهة جنوب لبنان. فالانطباع الغالب بأن اسرائيل تضع نصب أعينها الجبهة اللبنانية بعد انتهاء مرحلة رفح. والتمهل الأميركي للتحرك باتجاه ترتيب الحل في لبنان قد يكون مرده لانتظار ارتفاع الحماوة أكثر، للذهاب بعدها لترتيب الحلول. وبالتالي فهنالك من يتخوف من أن ترفع اسرائيل من سقف اعتداءاتها على لبنان حتى ولو توقف إطلاق النار في غزة.
لكن وعلى الرغم من “غياب” المتعمد للموفد الأميركي آموس هوكستين عن المشهد اللبناني، إلا أن هذا لا يعني الغياب عن وضع التصورات للمرحلة المقبلة حول جنوب لبنان في الغرف المغلقة كي تكون جاهزة عندما يبدأ التفاوض على صفيح ساخن.
وتأتي زيارات المسؤولين الأوروبيين الى بيروت والأفكار التي حملوها لتؤكد على ذلك.
ووفق المعلومات الجاري تداولها على نطاق ضيق، فإن التصور العام للحل في لبنان وصولا الى تطبيق القرار 1701 جرى ترتيبها على مراحل ثلاث.
المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي سيعلن فيها وقف إطلاق النار في لبنان. ومن المفترض أن يجري هنا اعتماد الصيغة التي حصلت عام 1996 يوم نفذت اسرائيل “عناقيد الغضب”. يومها جرى تشكيل لجنة خماسية كانت مهمتها ضمان تنفيذ وقف إطلاق النار وتنفيذ الترتيبات الميدانية التي جرى التوافق حولها. وتعمل فرنسا على إعادة إحياء الصيغة مع إدخال بعض التعديلات عليها. والمطلوبة هنا ترتيب ضمانات ميدانية تسمح بإعادة المدنيين الى منازلهم من الجهتين. وتتضمن إحدى الطروحات ضمان سحب صواريخ “الكورنيت” التي يملكها حزب الله الى مسافة أبعد من عشرة كلم بما يسمح للمستوطنين الإسرائيليين العودة الى مستوطناتهم كونها لم تعد مكشوفة أمام هذا النوع من الصواريخ.
المرحلة الثانية: وتلحظ هذه المرحلة إنهاء الاعتداءات الإسرائيلية على الحدود الجنوبية اللبنانية والتي باتت تتلخص بثلاث. الأولى وهي نقطة الB1. وتتذرع اسرائيل هنا بأن هذه النقطة تقع مباشرة فوق منتجع بحري اسرائيلي، بحيث أن الذريعة الاسرائيلية بأن أيا كان قادر على استهداف زوار المنتجع بالحجارة. وثمة حلول يجري وضعها من دون المس بالسيادة اللبنانية عليها. ومع تثبيت لبنانية الB1 يمكن استكمال ترسيم ما تبقى من الحدود البحرية والمقدرة بخمسة كلم، وكان جرى وضعها جانبا بانتظار حسم مشكلة الB1.
أما النقطة الحدودية الثانية والتي ما تزال عالقة فهي شمالي قرية الغجر والمساحة المأخوذة من لبنان. والحل المطروح يقضي باستعادة لبنان كامل مساحته، في مقابل إقامة منازل جديدة للذين كانوا موجودين على الأراضي اللبنانية في الجانب المقبل من الحدود.
أما المشكلة الثالثة والأخيرة فهي الأصعب وتتعلق بمستوطنة “مسكاف عام” حيث جرى الاعتداء على مساحة لبنانية. وتدور طروحات عدة في هذا المجال كمثل أن يأخذ لبنان أي منطقة قريبة يختارها وأن تشكل ضعف المساحة التي يخسرها في “مسكاف عام”.
تبقى ملاحظة مهمة، وهي أن تثبيت الحدود لن يشمل مزارع شبعا أقله في المرحلة الراهنة. وهذا ما يطرح علامات استفهام عدة.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة من مشروع التسوية فستشهد على تطبيق القرار الأممي 1701 برا وجوا وبحرا وبعد مفاوضات ومواكبة دولية، وحيث سيكون جرى تجهيز الجيش اللبناني بعديد إضافي وعتاد جديد يلائم المهمة الدقيقة التي سيتولاها، الى جانب قوات الطوارىء الدولية.
لكن ثمة إضافات أساسية يتطلبها إنجاح الخطة الجاري وضعها أبرزها على الإطلاق تحصين الواقع السلمي الذي سيجري تثبيته. وأولى متطلبات التحصين نقل المناخ من حربي الى إقتصادي وإنمائي ليس فقط في الجنوب، بل أيضا على مستوى كل لبنان. وهو ما يعني إعادة إطلاق الدورة الإقتصادية في لبنان عبر مشاريع وخطط دعم دولية كبيرة. وهذا ما سيؤدي بطبيعة الحال الى التمسك بالانتعاش الاقتصادي من خلال تأمين الاستقرار الأمني. ولكن استعادة الانتعاش الاقتصادي وضمان الاستقرار الأمني سيتطلب حكما الذهاب الى إعادة تكوين السلطة السياسية في لبنان بدءا من انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة طابعها إقتصادي إصلاحي إنقاذي برئاسة شخصية تجسد هذه الميزات. أما رئيس الجمهورية فمن المفترض أن تكون مهمته ضمان تطبيق الخطة الثلاثية وصولا الى القرار 1701، بمعنى أن يكون ضليعا بكافة تفاصيله والقطب المخفية العديدة التي يختزنها، وأن يشكل عامل ثقة دولية وداخلية ودرعا منيعا للحكومة لا عامل عرقلة لها أو منغمس في محاصصات وصفقات الطبقة السياسية القائمة حاليا، وأيضا ألا يشكل استفزازا لحزب الله.
وبالنسبة للتوقيت فإن ترتيب الاستحقاق الرئاسي وإعادة تكوين السلطة يصبح ضروريا فورا بعد تنفيذ المرحلة الأولى، أي بعد تنفيذ وقف إطلاق النار. بحيث يشرف الرئيس الجديد والحكومة على مفاوضات تثبيت الحدود وأيضا المرحلة الثالثة أي تطبيق القرار 1701.
ولكن قبل كل ذلك يجب التنبه للحماوة التي سترتفع والتي تريد إسرائيل أن تحقق من خلالها أهداف تتوخاها، خصوصا وسط تأييد اسرائيلي داخلي للذهاب باتجاه الحرب على لبنان، وهنا مبعث الخطورة.