الاستحقاق الرئاسي ضائع بين النكد السياسي في الداخل وغياب إرادة الخارج
ما من شك أن التحرك الذي يقوم به تكتل «الاعتدال الوطني» قد حرّك الى حد ما الجمود المحيط بالاستحقاق الرئاسي، لكنه الى الآن لم ينجح الى فتح ثغرة ولو بسيطة في جدار هذه الأزمة، وإن كان معظم من التقاهم «التكتل» أبدوا رغبة في الوصول الى توافق سياسي ينهي الفراغ المستوطن في قصر بعبدا منذ عام وعدة شهور، من دون أن يبدي أي فريق سياسي استعداده للتراجع قيد أنملة عن مواقفه السابقة والتي كانت من بين الأسباب التي حالت دون انتخاب رئيس للجمهورية الى الآن.
هذا التحرك لـ«الاعتدال» من حيث الشكل لا غبار عليه، ولا سيما أن التواصل يشمل كل الأطراف من دون استثناء، لكن من حيث المضمون فإنه لم يتضمن ما يطرحه أي جديد، فهو يدعو الى توافق من خلال حوار على انتخاب رئيس، وهذا الطرح لا يختلف عن دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوارية التي كرّرها عدة مرات قبل وبعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون وبقيت من دون أي جدوى، بفعل رفض شريحة من السياسيين ومعها البطريركية المارونية أي حوار يسبق انتخاب الرئيس، وهو ما يعني أن لا أفق لنجاح هذا التحرك الذي يجري تحت وطأة عواصف عدة تضرب المنطقة، ويصحّ في هذا التحرك القول أنه أشبه بمن يريد نحت جبل من صخر بإبرة، نظراً لتشعبات هذا الاستحقاق وتعقيداته المحلية والدولية.
وإذا كان البعض يعتقد بأن ما تتعرض له المنطقة من مخاطر، وما يُحكى عن إمكانية الوصول الى تسوية من شأنها تبريد الأجواء الملتهبة ان في غزة أو أماكن أخرى، تفرض استعجال انتخاب رئيس للجمهورية، يعقبه تأليف حكومة مكتملة الأوصاف لكي يكون لبنان قادراً على مواكبة ما يحصل، من عمليات تفاوضية وتوقيع اتفاقات في حال حصولها، فإن هناك من يرى استحالة حصول ذلك في ظل ما يجري، وأن كيفية نهاية الحرب في غزة هي التي ستحدد مصير ومسار الكثير من الملفات المفتوحة في المنطقة ، ومن بينها الملف اللبناني.
وفي هذا السياق تؤكد مصادر سياسية أنه ما دامت الإرادة الدولية غير متوافرة لانتخاب رئيس، فمن العبث التعويل على نجاح أي تحرك هادف لذلك من أي جهة كانت، ان على مستوى «اللجنة الخماسية» أو الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، أو على مستوى تحرك «الاعتدال الوطني» أو غيره في الداخل اللبناني، وأن كل ما يجري الى الآن لن يخرج الاستحقاق الرئاسي من مربع المراوحة، الى أن تلفح رياح التسوية لبنان، وهذا الأمر يبدو ما زال غير قريب.
وتشير هذه المصادر للدلالة على أن التعقيدات ما تزال على حالها بالنسبة لانتخاب رئيس، هو الاجتماعات المتباعدة لـ«الخماسية» وسفرائها في لبنان، حيث يقال أن سبب ذلك يعود الى شرخ واضح بين الأعضاء في مقاربة هذا الملف، وكذلك غياب الموفد الفرنسي عن المشهد، حيث كان يفترض أن يزور بيروت في شباط الماضي، بعد أن جرى الحديث عن محادثات أجراها مع مسؤولين سعوديين وأميركيين، والى الآن لا يوجد له أي موعد مع القوى السياسية، كل ذلك يدلّ بشكل واضح على أن مسألة انتخاب رئيس، لم يحن أوانها دولياً، وأننا سنكون أمام أِشهر إضافية من شغور، يترافق مع انكماش اقتصادي وتدهور اجتماعي.
وحول ما يُحكى عن توجه أميركي جديّ لانتخاب رئيس، وان السفيرة الأميركية تعكس في لقاءاتها مع المسؤولين هذه الرغبة الأميركية، ترى المصادر أن ما يُحكى بهذا الخصوص هو مجرد كلام بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع، وأن الإدارة الأميركية تهتم بلبنان فقط من زاوية أن يبقى بعيدا عن حرب واسعة مع إسرائيل، وان انتخاب الرئيس ليس أولوية لها الآن، وخصوصا ان واشنطن على أبواب انتخابات رئاسية في الخريف المقبل، حيث وكما جرت العادة لا تعود تهتم للملفات الخارجية وتتفرغ لاستحقاقها الداخلي الذي هو بالنسبة لها أولوية الأولويات، وهذا يدعونا الى القول بأننا لن نكون أمام مستجدات رئاسية جوهرية خلال الربيع، بل أمام مزيد من المراوحة القاتلة، التي تضرّ بلبنان ومصالح اللبنانيين الذين لم يعد لديهم القدرة على تحمّل وزر الوضع الراهن.