Site icon IMLebanon

ما مدى امكانية مأسسة التوافق والتشاور والحوار في انتخابات الرئاسة؟

  

 

بعدما تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان وفق المواد ٤٩، ٧٣، ٧٤، و٧٥ من الدستور، يحتدم السجال في شأن إمكانية التوافق أو الحوار أو التشاور قبل إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وسط تبادل أو تعارض المواقف الدستورية والسياسية من هذه الآليات ومدى تطبيقها في بلدٍ كلبنان، وهو أمرٌ يدفعنا إلى بناء موقف دستوريّ صرف، بعيداً عن الخلفيات الطائفية، سنداً للحاظ الآتي:

أولاً: لجهة التوافق

ثمّة اتجاهٌ يدعو إلى إدخال «الإستحقاق الرئاسي» من ضمن قواعد التوافق، أو ما يُعرف بالديمقراطية التوافقية الّتي وُجدت، أصلاً، في مجتمعات تقوم على انقسامات دينية أو ثقافية، حيث تسمح، إلى حدٍّ ما، لكلّ الجماعات السياسية بالمشاركة الفعلية في الحكم، كمحاولة لإيجاد حلّ للثغرات الّتي تولّدها الديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية الأكثرية، فما هي حدودها في الدستور اللبناني؟

الدستور اللبناني، برأينا، لم يتبنَّ، في نصٍ واضح، الديمقراطية التوافقية، انما جرى استلهامها بصورة ضمنية في النصّين الآتيين: الفقرة (ي) من مقدمة الدستور بنصّها: «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، وهو نصّ يكفل حقوق الطوائف، ويمنع السلطة، في آنٍ، من العبث بها، حيث جرت حمايتها في مواد لا يجوز التوسّع بها: المادة ٩ (احترام الأحوال الشخصية للطوائف)، المادة ١٠ (نظام تعليم خاص للطوائف)، المادة ١٩ (حق رؤساء الطوائف في الطعن بأيّ قانون يمسّ الشعائر الدينية)، المادة ٢٢ (انتخاب مجلس شيوخ يمثّل الطوائف فور انتخاب مجلس نيابي وطني لا طائفي)، المادة ٢٤ (المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مجلس النواب)، المادة ٩٥ (التوزيع الطائفي العادل في تشكيل الحكومة وفي وظائف الفئة الأولى)، عرف دستوري مكمّل (التوزيع الطائفي للرؤساء الثلاثة)، وكذلك في المادة ٦٥ من الدستور التي قالت، أصلاً، بالتوافق في القرارات المتخذة في مجلس الوزراء، والا في التصويت بالأغلبية عند تعذّر التوافق.

من خلال هذه النصوص نستطيع القول إن ميدان الديمقراطية التوافقية محدّد ومختص بالعناوين الحصرية في هذه النصوص، وبالتالي كلّ المسائل المتبقيّة تبقى محكومة بالديمقراطية التمثيلية أو الأكثرية وفق النصوص الدستورية ذات الصلة، ومن بينها انتخاب رئيس الجمهورية او انتخاب رئيس مجلس النواب او انتخاب اللجان النيابية أو تسمية رئيس الحكومة المكلّف، مما يعني أن عملية انتخاب رئيس الجمهورية ملحوظة في قواعد الديمقراطية الأكثرية لا التوافقية، وإلّا لما كان المشرّع الدستوريّ، في المادة ٤٩، قد قال بتغيير الأكثرية المطلوبة للانتخاب فور تعدّد الدورات (أكثرية الثلثين في الدورة الأولى والأكثرية المطلقة في الدورات الّتي تليها).

 

ثانياً: لجهة التشاور والحوار:

ليس كلّ ما لا يذكره الدستور محظوراً، شريطة أن لا يخالف نصاً دستورياً واضحاً، بدليل أن مهمة تأليف الحكومات قبل التعديل الدستوري عام ١٩٩٠ كانت تتم عبر آلية التشاور، بالرغم من أن النصّ لم يكن يجيز ذلك بصورة صريحة، كما كانت هذه الآلية معمولاً بها في الانتخابات الرئاسية في التجربة الفرنسية في الجمهورية الثالثة، كمصدر غير مباشر للدستور اللبناني عام ١٩٢٦، اذ كان النواب في فرنسا، بين عامي ١٨٧٠ و١٩٤٠، يتداعون للاجتماع في قاعة خاصة داخل دوائر البرلمان لإجراء انتخابات تجريبية تُفضي إلى إصطفاء المرشح الذي ستصوت عليه الكتل عند تحديد موعد رسمي للانتخابات الرئاسية، رغم أن ذلك لم يكن منصوصاً في الدستور، حيث كانت آلية الانتخاب، في الدستور آنذاك، مماثلة تماماً للطريقة المتبعة في انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان.

كما يجوز الحوار، ما دام التشاور جائزاً، قبل جلسة الانتخاب. ذلك أن المشرّع الدستوري، في الأصل، كان قد افترض تعذّر انتخاب رئيس الجمهورية، عندما قال بالدورات المتتالية (المادة ٤٩ من الدستور)، او عندما قال بممارسة الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية خلال خلو سدة الرئاسة (المادة ٦٢ من الدستور) أو حينما قال بالاجتماع الحكمي للمجلس (المادة ٧٤)، مما يعني أن الحوار، كإجراء غير مقصود لذاته، وسيلة للخروج عن حالة التعذّر هذه، شريطة ألا يصبح الانتخاب معلّقاً على شرط التشاور أو الحوار بصورة دائمة وحكمية لسببين:

الأول: إنّ الدستور لا ينظر في ملاءمة الوقائع، بل يدعو إلى تكييف الوقائع مع النصوص لا العكس، وإلا صار ممكناً ألا يُحتكم لمادة دستورية فور تعارضها مع واقعة معيّنة، بما يقوّض صفة الثبات والاستقرار الملازمة لأيّ دستور مدوّن!

الثاني: كي يُصبح الحوار وسواه ملزماً للسلطات يجب أن يُقر بنصٍ دستوريّ وما يقع في منزلته كالأعراف مثلاً، الا أن العرف الدستوريّ يتحقّق بعنصريه على وجه التلازم: المادي (يتطلّب تكرار الواقعة وثباتها وعدم الاعتراض عليها) والمعنوي (لا تصبح القاعدة واجبة الاتباع الا بعد اقتناع «الجماعة» بقوتها الإلزامية)، وهذان العنصران لا يتوفرّان في أسلوب «الحوار»، إن لم يكن بفقدان التكرار والثبات فبإنتفاء الإقتناع بالقوة الإلزامية له، من دون أن يعني ذلك بأن ما يقول به بعض أركان الطبقة السياسية منعدم الأساس الدستوري، حينما يعتقد هذا البعض بأن الحوار هو عرف تبعا لممارسته مرّة أو مرّتين، وهو اتجاه يتماشى به بعض فقهاء القانون الدستوري أمثال Ribot بقوله إن العرف يبدأ بأول تصرف، في حين أننا نرى بأن الفعل الواحد يعتبر سابقة لا عرفاً، وليس لهذه السابقة قوة الإلزام ما لم تتكرر.

 

ثالثاً: لجهة ترؤس جلسة الحوار والتشاور:

بالعودة إلى الاستحقاق الانتخابي التجريبي في الجمهورية الفرنسية الثالثة وتحديداً عام ١٩٠٦، أيّ عندما كانت تنظّم جلسات تشاورية قبل تحديد موعد الانتخاب، كانت الدعوة تتم من قِبل رؤساء الكتل دون سواهم ولم تكن، بالتالي، مشروطة برئاسة جهة معيٍنة، لكن لم تُخفِ عن دور فاعل وأساسي كان يلعبه رئيس الجمعية الوطنية في تنظيم نتائج العمل التجريبي في تلك الانتخابات، الأمر الّذي يستسيغ امكانية رئيس المجلس النيابي في إدارة نتائج الحوار على الأقل، لا سيما أن المادة الخامسة من النظام الداخلي للمجلس النيابي تمنح رئيس المجلس صلاحية تمثيل المجلس والتكلّم باسمه، وهذه الصفة تمنحه امتيازاً في إحداث الأثر للقواعد البرلمانية الملحوظة في الدستور والنظام الداخلي للمجلس، وهو أثرٌ يتصل، في طبيعة الحال، داخل وخارج انعقاد جلسات الهيئة العامة..

لذلك، إنّ مأسسة التوافق في الانتخابات الرئاسية ليس في مكانه الصحيح تبعاً لخروج الأخيرة عن ميادين الديمقراطية التوافقية المُستشفّة في الدستور، لكن هذا لا يُلغي إمكانية تطبيق منهجية التشاور والحوار الّتي تؤدي إلى التوافق حول مرشّح معيّن، من دون أن يخالف هذا الأمر الدستور الّذي وإن كان ينظّم آلية تنفيذ الإستحقاقات الإنتخابية، لكنه لا يتدخل في ظروف بلورة هذه الالية، خصوصا أنه، كما أسلفنا ، افترض حالة «التعذّر»، وذلك ضمن ميدان «الإباحة» لا الحظر والإلزام.

 

* كاتب وأستاذ جامعي متخصّص في القانون الدستوريّ