يستبعد سياسيون وديبلوماسيون مخضرمون أن يتمّ التوصل إلى مرشح توافقي للرئاسة قبل عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة. فالمهلة ما زالت تسمح بالمناورة ولو لأيام قليلة، قبل الدخول في مدار الجلسة الانتخابية التي اختير موعدها بعناية وضعتها على مسافة دقيقة من موعد دخول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والخمس الأخير من نهاية مهلة الـ 60 يوماً، وهو ما يعني بطريقة أخرى أنّ الاستحقاق بات أسير العصا العسكرية والجزرة المالية. وهذه هي المؤشرات.
إن اختلف بعض المراقبين لأدق التطورات في تقديرهم لحجم الاهتمام الأميركي بالاستحقاق الرئاسي في لبنان، وإن كان على جدول أعمال الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب، بما يعني الملفات التي يريدها ان تكون قد أُقفلت قبل دخوله البيت الأبيض في 20 كانون الثاني المقبل، فإنّهم لا يتجاهلون أهمية موقع لبنان الجيوسياسي والعسكري في ولايته للسنوات الاربع المقبلة، ومدى الحاجة إلى وجود رئيس للجمهورية يتناغم مع الوضع الجديد في المنطقة، في ظل ما كرّسته الايام القليلة الماضية من واقع لم تعرفه يوماً من قبل، إلى درجة استحق فيها الحديث عن «شرق أوسط جديد». وهو يحيي الحديث عن سعي ترامب في ولايته السابقة إلى رسمه بطريقة قد لا يجوز استنساخها كما كانت مقترحة، ولكنه بلا أي شك سيكون ملفاً كبيراً وسميكاً على الطاولة عند النظر في خريطة المنطقة.
وإن كان الإعتقاد ايضاً يسود بما يعتبره البعض إهمالاً خليجياً عموماً وسعودياً خصوصاً، فإنه أمر يخضع للتشكيك. فالبعد الخليجي عن لبنان لم يكن ابن ساعته ولا رهناً بشبكات تهريب المخدرات مغلفة بالليمون والرمان او ممزوجاً بالشاي وبقية أنواع الفواكه، فإنّ ذلك ليس دقيقاً. فقد تحّمل الخليجيون ما لا يُحتمل من بعض اللبنانيين الذين كالوا لهم الاتهامات بأقذر العبارات والأوصاف، قادة وشعوباً، قبل تلك المرحلة وفيها، وبقيت العلاقات مقبولة بالحدّ الأدنى الذي لم يُصب اللبنانيين بالأذى الكبير، إلى أن جاءت القطيعة الديبلوماسية والمقاطعة الاقتصادية التي فعلت فعلها وقلبت الموازين.
ولا يتجاهل المراقبون عند العودة إلى تلك المرحلة، وتحديداً عند مقاربة الأزمة الناجمة عن وقف استيراد الإنتاج اللبناني والصناعات الزراعية والغذائية وبقية أشكال التبادل التجاري، إلى أن طفح الكيل بدمج القادة الخليجيين بين أهل الحكم والحكومة من جهة، وبين من تبنّى «محور المقاومة» من اللبنانيين من سياسيين وإعلاميين من جهة أخرى، ووضعتهم في سلّة واحدة. فلا ينسى احد مواقف بعض الوزراء، ولا سيما منهم وزير الخارجية جبران باسيل، الذي سجّل في أكثر من محطة حاجة لبنان إلى سلاح المقاومة على حساب المؤسسات العسكرية والامنية الشرعية إبان ولاية عمه الرئيس العماد ميشال عون. وقد تسبب احد المواقف في إحدى المحطات، بإلغاء مؤتمر ضخم كان يجري التحضير له في دولة الإمارات العربية المتحدة تحضيراً لهبات وقروض اقتربت من 7 مليارات دولار في أوائل خريف العام 2018، بسبب مضمون تصريح أطلقه رأس الديبلوماسية اللبنانية في حينه على هامش اجتماع لوزراء الخارجية العرب في القاهرة.
ليس في ما سبق تذكيراً بمرحلة عبرت او تأريخاً للعلاقات بين لبنان والولايات المتحدة الاميركية ودول الخليج، بل للتذكير بما تقتضيه المرحلة الراهنة من تغيير الصورة وما تقتضيه من استعدادات لا بدّ من أخذها في الاعتبار مع اقتراب لبنان للمرّة الاولى من استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية الذي سيكون عليه التنبّه سلفاً إلى اهمية هذه العلاقات مع هذين القطبين، من دون إهمال بقية القوى الدولية والاقليمية، ليعود لبنان بكل مواصفات الدولة إلى المنتديات الاقليمية والدولية، فلا يبقى في الصفوف الخلفية للقمم والمؤتمرات طالما انّه يفتقد رأس الدولة وحامي الدستور، لأنّه الوحيد الذي يقسم عليه. كما يحتاج إلى قائد القوات المسلحة الذي أنيطت به أيضاً الصلاحيات الدستورية في كل ما يتصل بالاتفاقات والمعاهدات الدولية، وهي صلاحية لصيقة بشخصه ولا يمكن تجييرها إلى اي شخص او سلطة او مؤسسة في غيابه.
وعلى هذه الخلفيات يتوقف المراقبون عند هذه الملاحظات الأساسية في مراجعتهم لمواصفات الرئيس العتيد وشخصه ونهجه، وما له من دور لإعادة وصل ما انقطع مع الدول والمؤسسات والهيئات الدولية، وتجاوز الآثار السلبية الخطيرة التي لحقت بالوضع الاقتصادي والمعيشي وإعادة تعويم النقد اللبناني وخوض غمار الإصلاح المالي نحو مرحلة التعافي والإنقاذ المطلوبة وإنعاش خزينة فارغة ودولة عاجزة عن تأمين أكثر من 4 او 5 ساعات من الطاقة الكهربائية يومياً، لولا بعض المساعدات العراقية، ولا تستطيع أن توفر اللحوم في غذاء الجيش والمحروقات والزيوت للآليات العسكرية وشاحنات الجيش ودباباته لولا الهبات القطرية، عدا عن المساعدات الأخرى من الاتحاد الأوروبي وواشنطن وباريس وروما وعدد من عواصم العالم والمؤسسات الدولية.
ويضيف هؤلاء أنّه لا يمكن تجاهل هذا الواقع عند البحث في مواصفات الرئيس المطلوب وأهليته، ذلك انّ ما تسببت به العدوانية الإسرائيلية منذ أن شنّ «حزب الله» حرب «الإلهاء والإسناد» جاءت بما هو أفظع مما يعيشه اللبنانيون من نكبات يومية وبأسوأ النتائج وأكثرها إيلاماً وخطورة على كيان البلد ومقومات وجوده، وباتت المخارج لها رهن السعي إلى سلوك مسارين قد لا يكون هناك ثالث لهما:
– الأول يتصل بالرعاية الدولية والاميركية خصوصاً لاتفاق وقف النار، وما قال به من ترتيبات لا تقف عند الحدود الجنوبية لسحب العدو الإسرائيلي من المناطق المحتلة، ولا بمنطقة جنوب الليطاني التي ستكون في عهدة الجيش وقوات «اليونيفيل» وإخلائها من أي سلاح غير شرعي، إنما على مستوى سلطة الدولة على مساحة لبنان ومعابره البرية والبحرية والجوية. وبات الأمن والاستقرار رهن إشارة وشهادة من لجنة الإشراف ومراقبة الاتفاق برئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
– أما المسار الثاني، فهو يتصل بالوضع الاقتصادي والنقدي المنهار وتسيير أمور الدولة وإعادة بناء ما تهدّم. وهو أمر لا يمكن ان يتمّ من دون ان يفتح أصحاب الخزائن الكبرى بمليارات الدولارات الخليجية لإعادة البناء والإعمار، وخصوصاً المملكة العربية السعودية التي تتريث في تقديم أي عون قبل ان تشهد على ولادة دولة بكل مواصفاتها الدستورية والسياسية، وهي لن تقّصر في دعمها متى توافرت الحوكمة الرشيدة وتوقف حمام الدم على أرضها وعادت راضية مرضية إلى الحضن العربي بعيداً من الانزلاقات إلى محور انتهت فاعليته وخلصت صلاحيته في نحو 70 يوماً. وانّه لا بدّ للدولة من ان تنسجم مع ما هو مطروح من إصلاحات، فتعطيها ما تستحق من اهتمام لاستعادة الثقة الدولية والعربية والخليجية بما يُسمّى دولة لبنانية.
وانطلاقاً مما تقدّم ينتهي المراقبون عند نظرية حتمية لا بدّ من الإشارة اليها، وهي تقول في خلاصتها إنّ الاستحقاق بات رهن العصا العسكرية المسلّطة على المنطقة، ولبنان في قلبها، والجزرة الاقتصادية والمالية الجاهزة لمدّ يد العون، فتلتقي الإرداتان السياسية مع المالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان في التاسع من كانون الثاني المقبل، وما عدا ذلك مجرد تمنيات وسيناريوهات وهمية لا يمكن أن تؤدي إلى اي نتيجة تُذكر ولا يمكن الرهان عليها.