للوهلة الأولى وأنت تنظر إلى لبنان من البعيد، تخاله بلداً عادياً يعاني من مشاكل سياسية والسياسيون ورعاتهم يتصرفون وكأننا نمرُّ في ظروف أزمة سياسية عابرة، وأن الجميع يملك ترف الوقت لحلّها. فلا الموفدين الدوليين ونصائحهم وفي أغلب الأحيان تهديداتهم وتوبيخاتهم لا فرق، ولا الوساطات لم تنفع في ثني هذا الفريق أو ذاك عن موقفه الأرعن الرافض للولوج في أي حل، ولو حتى كرمى لمصلحة الناس والبلد ورأفة بعباده الذين باتوا يعانون الأمرّين في ظل أزمة معيشية واقتصادية خانقة لم تنفع ترقيعات الحكومة وتصرفات رئيسها التي لم تقدّم ولم تؤخّر منذ الفراغ الرئاسي وشغور سدة الرئاسة. ليتبيّن أن البلد الجمهوري الديموقراطي هو أقرب ما يكون من النظام الرئاسي، فلا الحكومة غير الميثاقية تجتمع وهي إن اجتمعت فهي أعجز من أن يقوم وزراؤها بتحمّل مسؤولياتهم وإرسال ما يلزم من مشاريع قوانين لتفعيل عملية الإصلاح والبدء بتنفيذ العناوين العريضة التي لا يختلف اثنان عليها. ولا المجلس النيابي الغائب عن السمع وغير المؤهل للاجتماع في دورة تشريعية والذي لا يمكنه إلّا بممارسة دوره الانتخابي لملء الشغور الرئاسي وانتخاب رئيس جمهورية، وحتى وفي عزّ حركته الدستورية لم يقم المجلس أو أي من نوابه باقتراح القوانين الضرورية للقيام بالإصلاح، فامتنع الاقتصاديون في المجلس والحكومة من اتخاذ الخطوات الآيلة إلى إعادة هيكلة المصارف ووضع قانون ضرائبي يعتمد التصاعدية الضريبية والاستثمار المجدي للأملاك العامة البحرية والنهرية والبرية بدلاً من استسهال مد اليد إلى جيوب المواطنين في كل مرة تقع الدولة في العجز. وهكذا ومع الصلاحيات المعطاة لرئيس الجمهورية في حدّها الأدنى، تبقى الرئاسة الأولى المحرّك الأول لكل المشاريع الإصلاحية والخطوات الآيلة إلى محاربة الفساد ورسم السياسة الخارجية وتوقيع الاتفاقيات الدولية وذلك كما تظَهر في اتفاقيات التنقيب عن النفط والغاز وترسيم الحدود البحرية. فالرئاسة هي الرأس والأساس ومن دونها لا حكم ولا حكومة.
انتخاب الرئيس دونه تعنّت داخلي وتشتّت خارجي
مع أهمية إنجاز الاستحقاق الرئاسي وأولويته على ما عداه فإن جميع السياسيين من أهل الربط والحل يتعاملون معه وكأنه خيار وليس واجب، فالرئيس إما أن ياتي على هواهم أو فلنبقى بدون رئيس إلى ما شاء الله كما أعلنها بعض «جهابذة» الساسة عندنا، حتى أن البعض لا يتوانى عن الإشادة بحكم الدولة أو الدويلة التي كانت تحت إمرته، ويعتبر أن سيطرته على منطقة وإدارته لها إنما هو مثاله الأعلى للحكم، وبالتالي فهو يعمل للفراغ ويجاهر به علناً.
والسؤال المطروح هل فعلاً إن الجميع يريد انتخاب رئيس للجمهورية؟ أم أن هناك من يفرح للعب في الوقت الضائع آملاً أن يحمل القادم من الأيام الفرج له ولفريقه السياسي، وكأن العالم سيتغيّر وفقاً لأهوائه ونزواته، مثله مثل التلميذ الصغير الذي يصلّي كل مساء لقدوم العاصفة كي تغلق المدرسة أبوابها لأنه لم يقم بحفظ درسه وإتمام فرضه.
سيبويه ومفردات الصرف والنحو
كما حصل عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، فإن البعض وبدلاً من أن يتحدث عن الفراغ الرئاسي راح يتحدث عن الشغور الرئاسي، وفسّر رئيس حكومة تصريف الأعمال ومستشاروه الماء بعد الجهد بالماء، وقد حاول دولته الإيحاء أن البلد ماشي وأن كل شيء ممسوك حتى شهدنا ما شهدناه من فرط للبلد وانهيار للاقتصاد واضمحلال للنقد الوطني، فأصبح الدولار عملتنا والبلد ليس بلدنا. حتى أننا بتنا على قاب قوسين أو أدنى من حدوث زلزال ديمغرافي يهدّد وجودنا.
وفي هذا الخضم ترتفع أصوات لتنادي باللقاء بدل الحوار وذلك سبيلاً لحل المعضلة الرئاسية، فبالله عليكم خفّفوا من تنظيراتكم في لغة سيبويه واذهبوا إلى الحوار وانتخاب رئيس في دورات متتالية مفتوحة، فالقسطنطينية على وشك السقوط وأنتم تبحثون عن جنس الملائكة.
* كاتب سياسي