ما الذي يدفع السعوديين إلى الاستنفار استثنائياً، للمرة الأولى منذ 33 عاماً، دفاعاً عن «اتفاق الطائف»؟ هل يفعلون ذلك من باب التحوُّط، أم إنّهم يملكون معلومات عن مساعٍ جدّية إلى تطيير «الطائف» أو تغييره أو تعديله؟
منذ انفجار الأزمة في تشرين الأول 2019، بدا واضحاً أنّ البلد دخل مأزقاً لن ينتهي بسهولة. فأي مصادفة هي التي سمحت بأن يشهد لبنان خلال 10 أشهر فقط (بين تشرين الأول 2019 وآب 2020) أكبر انهيار اقتصادي في العالم، منذ 150 عاماً، وفق تصنيف الأمم المتحدة، وأكبر انفجار غير نووي في التاريخ، هو انفجار المرفأ؟
على مدى السنوات الثلاث الفائتة، كانت تدور أحاديث في عدد من الأوساط، مفادها أنّ لبنان سيتغيّر سياسياً في نهاية هذه الأزمة. ففي العادة، عندما تُصاب أي دولة بانهيار مريع، كما لبنان، يتمّ البحث عن خلل في نظامها السياسي تسبَّب في الانهيار.
فالدول ذات الأنظمة السياسية الراسخة لا تسقط مؤسساتها الدستورية والإدارية تحت وطأة الأزمات الاقتصادية أو المالية، كما يحدث اليوم في لبنان. وعلى العكس، تستنفر هذه المؤسسات للإنقاذ وتصبح أكثر فاعلية.
في لبنان، فشلت المؤسسات وسقطت تباعاً: فشلت الحكومات من سعد الحريري إلى حسّان دياب فنجيب ميقاتي. وفشل المجلس النيابي بنسختيه، قبل انتخابات 2022 وبعدها. وأخيراً، خرج رئيس الجمهورية مكرِّساً فشل العهد بكامله.
وقبل كل شيء، فشل الشعب في «انتفاضاته»، ثم فشل القضاء في محاسبة المسؤولين عن الكارثتين: الانهيار المالي وانفجار المرفأ، وفشل «التغييريون» في المجلس النيابي. وحتى اتفاق الترسيم تمّ إفراغه من زخمه. وأما الاتفاق الموعود مع صندوق النقد الدولي، فيبدو كأنّه رصاصة الرحمة.
واليوم، يعيش البلد على «الترقيع». وكأنّ الجميع ينتظر حدوث أمرٍ ما في لحظة معينة. وموضوعياً، يمكن تصنيف لبنان «دولة فاشلة»، ولا ضمان فيه سوى الجيش والأمن.
وليس سرّاً أنّ هناك سيناريوهات يجري تداولها منذ سنوات، في عدد من الأوساط، وتتعلق بمسار الأزمة في لبنان، ومنها ما يتحدث عن تغيير كامل للنظام بما يلائم التوازنات الجديدة للقوى في لبنان والشرق الأوسط، خصوصاً أنّ هناك قوى لبنانية فاعلة تطرح جدّياً عدالة الاستمرار تحت عباءة النظام القديم، أي الطائف.
فالقوى الشيعية، وأكثرها وضوحاً «حزب الله»، ليست مقتنعة بالتوازنات التي قامت عليها تركيبة السلطة في العام 1943. وهي تعتبر أنّ الطائف الذي كان نتاج تسوية سعودية- سورية في العام 1989 لم يلبّ الحاجة إلى التغيير المطلوب. وفي أي حال، اليوم، مع تغيّر الظروف جذرياً، بات النظام يستلزم إعادة نظر شاملة. وهذا هو مغزى المطالبة بانعقاد المؤتمر التأسيسي.
وبديهي أن تكون اللحظة المؤاتية، تلقائياً، لإعادة التأسيس هي اكتمال الانهيار، حيث تكون العناصر كلها جاهزة لإعادة التكوُّن وفق أسس جديدة. والفراغ الذي أحدثه خروج عون من بعبدا في ظلّ حكومة تصريف أعمال، والانزلاق نحو مزيد من التردّي النقدي والمالي والاقتصادي، يفتحان الباب للبحث في صلاحية استمرار هذا النظام، بعد تحميله المسؤولية عن كل الموبقات الحاصلة منذ عقود.
وحتى اليوم، ليس واضحاً إذا كانت القوى الشيعية تفضّل أن يُعقد الحوار خارج لبنان، كما أوحت دعوة السفارة السويسرية، وربما كما ترغب فرنسا أيضاً، أو أن يبقى هذا الحوار في دائرته اللبنانية كما أوحى رئيس مجلس النواب نبيه بري. بل إنّ هذه القوى ربما تصرف النظر عن فكرة المؤتمر أو توافق على صيغة أكثر اختصاراً إذا تكفلت هذه الصيغة بتحقيق الأهداف المرجوّة.
ولكن، في أي حال، المؤكّد هو أنّ «حزب الله»، الذي كان شريكاً للقوى الدولية والإقليمية في اتفاق ترسيم الحدود البحرية وتقاسم الغاز، بات أكثر ثقة في قدرته على استثمار رصيده الخارجي من أجل تحقيق أهدافه داخلياً.
وثمة مَن يعتقد أنّ المأزق الذي يتخبّط فيه ملف رئاسة الجمهورية سيطول أمده، ولن يُحسَم إلاّ في صفقة متكاملة يُعاد فيها النظر في «اتفاق الطائف». وإذا تحقق ذلك فسيعني أنّ الرئيس ميشال عون كان آخر الرؤساء في نظام الطائف القديم، قبل الانتقال إلى نظام الطائف الجديد المعدّل.
وهنا، يمكن التفكير في حقيقة خيارات «حزب الله» في الملف الرئاسي، بعيداً من التفسيرات والتسريبات من هنا وهناك. فبين رئيس «المردة» سليمان فرنجية ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، أيهما الأكثر استعداداً للقتال من أجل إحداث تعديلات على الطائف؟ بل، أيهما هو الأكثر «نفوراً» تجاه الطائف؟
ثمة من يعتقد أنّ عجز لبنان عن ولوج التسويات في الأشهر الأخيرة، دستورياً وسياسياً ومالياً، مردُّه إلى عدم نضوج العناصر التي تسمح بإنتاج نظام سياسي جديد في لبنان. وهذا النضوج ما زال يستلزم أشهراً أخرى أو عاماً أو أكثر. وخلال هذه الفترة، سيبقى لبنان بلا رئيس الجمهورية.
ولكن، بعد التحوُّلات التي بدأت تظهر في المشهد الإقليمي والدولي، بصعود بنيامين نتنياهو وربما دونالد ترامب وانعكاسات ذلك على أوكرانيا وأوروبا عموماً، هل يفترض بالجميع في لبنان والشرق الأوسط أن يراجع حساباته ويدرس رهاناته من جديد؟