لم يكن واضحاً ما جرى فعلاً في اليمن، صحيحٌ أنّ الأخبار تحدثت عن استهداف أميركي – بريطاني لمواقع حوثية طالت أكثر من 60 هدفاً في 6 محافظات، كردّ على التعرّض الحوثي في البحر الأحمر للعديد من السفن التجارية العملاقة تضامناً مع أهالي غزة، إلاّ أنّ الكثير من الزوايا المبهمة للمشهد الحاصل يطرح الكثير من علامات الاستفهام.
في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، دخلت القوى الأساسية في مباحثات سرّية لتنظيم خارطة النفوذ بعد انتهاء الحرب. ولذلك اجتمع زعماء الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، واتفقوا على رؤيتهم لمستقبل أوروبا في مدينة يالطا. ويومها لم يقتصر الاتفاق على «اليوم التالي» بل واكبه تفاهم بين القيادات العسكرية حول كيفية تنسيق التقدّم العسكري للجيوش لتتلاءم مع التفاهمات السياسية التي جرى إرساؤها. وهكذا جرى تقاسم المانيا من خلال حائط برلين، وأيضاً النفوذ السياسي للخارطة الأوروبية.
ولم يكن اتفاق يالطا فريداً من نوعه، فالتاريخ يلحظ اتفاقات مماثلة عند نهاية معظم الحروب الكبرى التي جرت. ولذلك، من السذاجة بمكان الإعتقاد بأنّ الحرب العنيفة التي كان محورها غزة، قابلة لأن تنتهي من دون ترتيبات سياسية ستظلّل المراحل المقبلة في الشرق الاوسط. وبصورة أكثر دقّة ، فإنّ اللاعبين أو الطرفين الأساسيين في هذه الحرب، أي واشنطن وطهران، لا بدّ أن يخرجا بتفاهمات سياسية تطال المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ قناة سلطنة عمان بقيت تعمل كعادتها بهدوء وبعيداً من الصخب الإعلامي.
ومناسبة هذا الكلام العديد من الإشارات الغامضة التي واكبت التطورات على الساحة اليمنية. بداية، فإنّ دور الإسناد الأول لغزة جاء هذه المرّة من اليمن. صحيحٌ أنّ حرباً محدودة السقف اشتعلت في جنوب لبنان، لكن صواريخ الحوثيين باتجاه المواقع الإسرائيلية الحساسة وخصوصاً باتجاه خطوط الملاحة البحرية في باب المندب شكّلت التأثير الأخطر على المستوى الدولي.
وأمام الضغط الدولي المتصاعد حيال الممر البحري الذي يختزن حوالى 15% من حركة التجارة العالمية، جرى حشد القطع البحرية العسكرية الأميركية والدول الحليفة. لكن الردود العسكرية ضدّ الحوثيين بقيت في مستوى متواضع قياساً الى حجم الحشود. وكان لافتاً إحجام السعودية والدول الخليجية عن المشاركة في تحالف «حارس الإزدهار» المتعدّد الجنسيات، بهدف التصدّي لأي هجمات تستهدف الملاحة البحرية الدولية. أغلب الظن أنّ هذه الدول شعرت بأنّ الصورة ليست «صافية» بالقدر الكافي الذي يجعلها تنفّذ استدارتها وترمي التفاهمات التي أرستها مع الحوثيين وإيران خلف ظهرها. هذا مع العلم بأنّ دول الخليج تعرف جيداً بأنّ خلافها مع إيران والحوثيين كبير وعميق ولا تزيله التفاهمات الجارية، بل ستكون بمثابة المصافحة بيد، واليد الثانية خلف الظهر تُمسك بالخنجر. وبالتالي فإنّ لإحجام دول الخليج عن المشاركة ظنوناً رفعت من منسوبها تلك الزوايا المبهمة في العملية الأميركية – البريطانية على الحوثيين.
ذلك أنّ تساؤلات كثيرة ظهرت حول أسباب عدم نجاح الضربة الجوية والصاروخية، وسط الكثير من الهمس حول قيام واشنطن بإبلاغ طهران مسبقاً بالضربات التي ستحصل. وهو ما سمح للحوثيين بإخلاء معظم المواقع من العناصر والاسلحة.
وبدت وزارة الدفاع الأميركية محرجة بعد تصاعد الشكوك، ما اضطرها وعبر مصادرها، إلى الإقرار بحصول تسريب للعملية قبل حصولها، واضعةً اللوم على الشريك البريطاني.
وليس سراً أنّ قرار توجيه ضربة للحوثيين كان موضوعاً على طاولة النقاش في واشنطن منذ أسابيع ، لكن إخراجه بهذه الصيغة يؤشر إلى وجود تفاهمات مع إيران. فحتى الرئيس الأميركي جو بايدن أشار بكلام صريح حول وجود تواصل مع طهران «التي لا تريد الحرب». وهنا لا يجب وضع حسابات الانتخابات الرئاسية الاميركية جانباً. فالمعروف أنّ قنوات التواصل المباشرة بين الحزب الديموقراطي الحاكم وطهران بقيت قائمة وتولاها في الكثير من الأحيان وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، وهو الذي أشرف على ولادة الاتفاق النووي عام 2015. وبالتالي فإنّ الحملة الإنتخابية المحشورة لبايدن داخلياً قد تجد عوناً من خلال جزء من الجالية الإيرانية التي تتأثر بالتوجّه الإيراني، والتي تتمركز بشكل أساسي عند الساحل الشرقي الأميركي. أضف الى ذلك، فوز إدارة بايدن بأوراق في الشرق الاوسط تسمح له باستثمارها داخلياً.
وواكب كل هذه الظنون كلام لمراكز الدراسات الأميركية الجدّية حول وجوب تعميم نموذج الكوريتين الشمالية والجنوبية على اليمن كحل مستقبلي. وهو ما يعني ضمناً الإقرار بنفوذ إيراني على الممر المائي الدولي في البحر الأحمر. وفي حال صدق ذلك، فهو يُعتبر تموضعاً إيرانياً جديداً لمرحلة ما بعد غزة، والتي من المفترض أن تشهد فك ارتباط بينها وبين اسرائيل بدءاً من الساحة الفلسطينية ومروراً بالجولان وانتهاء بجنوب لبنان.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة مهمّة الموفد الأميركي آموس هوكستين حول القرار 1701 في جنوب لبنان.
لكن قبل استعراض آخر معطيات زيارة هوكستين الأخيرة الى لبنان، فلا بدّ من التطرّق الى نقطتين أساسيتين. الاولى وتتعلق بالنشاط المستجد لـ«داعش» في سوريا والعراق أو الممر البري الإيراني باتجاه شاطئ البحر المتوسط، والثانية حول الوضع الحكومي الإسرائيلي، والذي يشكّل مدخلاً ملزماً للإنتقال الى مرحلة «اليوم التالي».
ذلك أنّ تنظيم «داعش» عاود نشاطه فجأة في محافظات صلاح الدين وديالي والأنبار وشمال بغداد، إضافة الى البادية السورية في تدمر وصحراء حمص. وهو استهدف بشكل خاص الحشد الشعبي والجيش العراقي. كذلك لوحظت عودة النشاط الإعلامي للتنظيم الإرهابي عبر مؤسسته الإعلامية، والدعوة لتكثيف العمليات في العراق وسوريا ضدّ من وصفهم بالمرتدين. ولوحظ مهاجمته حركة «حماس» والحديث عن علاقتها بإيران.
وتشير المعلومات، الى أنّ التنظيم يعمل على إعادة التواصل بين خلاياه وإعادة ترتيب شبكاته في العراق وسوريا ، لكن الملاحظ أنّ الصحوة الجديدة لـ»داعش» لا تمكّنه من السيطرة على المدن كما حصل معه سابقاً، بسبب أعداده المحدودة ، بل فقط بتوتير الوضع وهزّ الإستقرار وقطع التواصل. وهذا ما جعل البعض يستنتج بأنّ ما ينطبق على اليمن لن ينطبق بالضرورة على سوريا والمنطقة العراقية المحاذية.
أما حول النقطة المتعلقة بالوضع الحكومي الإسرائيلي، فبات واضحاً أنّ الخلاف الصامت الذي كان قائماً بين بايدن ونتنياهو تحوّل الى صراع معلن حول مرحلة «اليوم التالي» .
وجاء تفاقم الصراع بين نتنياهو ووزير دفاعه ليزيد من حجم التشققات الحكومية. وصراع نتنياهو – غالنت ليس جديداً، فمنذ أقل من عام أعلن نتنياهو إقالة غالنت بسبب الاحتجاجات الشعبية، قبل أن يعود عن قراره بسبب اتساع التظاهرات .
والأهم أنّ نتنياهو واليمين المتطرّف يخشيان إعلان وقف الحرب خشية الذهاب الى انتخابات بمثابة مقصلة سياسية لهما، وهذا ما تراهن عليه إدارة بايدن.
ففي آخر الإستطلاعات والتي أجرتها صحيفة «معاريف»، تبين أنّ الائتلاف الحكومي الحالي سيحوز فقط على 44 مقعداً. أما استطلاع القناة 12 فمنح الائتلاف الحكومي 48 مقعداً، مع تسجيل 39 مقعداً (معاريف) و35 مقعداً (قناة 12) لحزب غانتس كأكبر كتلة نيابية .
وهو ما يؤشر الى احتمال ارتفاع مستوى الصراعات الداخلية لتطيير الحكومة، كمدخل إلزامي للشروع في المرحلة الجديدة.
لذلك، ربما ولكل ما سبق جاءت زيارة هوكستين الى بيروت غير محدّدة ومن دون برنامج واضح. بل تضمنت أفكاراً متعددة ونصائح مختلفة محورها محاذرة الانزلاق باتجاه الحرب التي يريدها «البعض» في اسرائيل. وهو تحدث عن ضغوط تمارسها إدارته على نتنياهو لمنع الذهاب الى الحرب، لكنه أشار الى الانقسام الداخلي الحاد، خصوصاً لجهة العسكر الذين يدفعون باتجاه الحرب.
وهوكستين الذي ظلّ ممسكاً بملف تأبطه دائماً ولم يفتح صفحاته ولا مرّة، ردّد أكثر من مرّة بوجود نافذة للحل السلمي عبر السبل الديبلوماسية. لكنه أبقى تفاصيل هذه الرؤيا الديبلوماسية مبهمة، ولو أنّه كرّر الدعوة لتطبيق القرار الأممي 1701.
وأمام الموقف اللبناني والمنسّق مسبقاً مع «حزب الله»، والقائم على ترحيب لبنان بتطبيق القرارات الدولية شرط أن تنفّذها إسرائيل أيضاً، بدا أنّ الموفد الأميركي يعتمد إبقاء مزارع شبعا جانباً وخارج النقاش حالياً، وهو ما يعزز الانطباع بأنّ المشروع سيطال الحدود مع سوريا لاحقاً، ولكن عندما يحين الوقت. لكن قبل ذلك هنالك المشهد الجنوبي الجديد مع دور أوسع وأفعل للجيش اللبناني، وهو ما كانت عبّرت عنه السفيرة الأميركية السابقة دوروثي شيا بالدعوة لزيادة عديد الجيش كي يتمكن من نشر على الأقل 10 آلاف جندي في المنطقة الحدودية، خصوصاً أنّ القرار الأممي يشير الى 15 ألف جندي فيما يتواجد الآن فقط 3 آلاف.
باختصار، فإنّ زيارة هوكستين لم يكن مقرّرا أن تؤدي الى ظهور نتائج فورية. ربما كانت تهدف للإشارة الى أنّ لبنان ليس منسياً، ولكن وقته لم يحن بعد بسبب عدم اكتمال الصورة في المنطقة، وللتذكير بالتمسك بضوابط اللعبة الخطرة المفتوحة في الجنوب، وهو الذي خرج من لقائه بالرئيس نبيه بري بأنّ مناخ «حزب الله» ليس سلبياً أو متشنجاً. كما أنّه كان ملتزماً بعدم التطّرق الى الملف الرئاسي عملاً بالفصل بينه وبين ملف الجنوب.
فالملف الرئاسي سيبقى حصراً بيد المجموعة الخماسية، والتي ستتحرك قريباً على ما يبدو.