انشغلت الاخبار في اليومين المنصرمين بحدث مختلف: اجتماع الدول الخمس المعنية بالمساعدة على انتخاب الرئيس. توقيت الاجتماع بَانَ اغنى من مضمونه، لذا قيل ان حصوله هو افضل ما فيه. اما الانتخاب المعلق لرئيس الجمهورية، فشأن مختلف قلما يجري في لبنان بالحسنى
بعد تحرّكات تولاها اعضاؤها منفردين بالحض على انتخاب رئيس للجمهورية، اعادت الخماسية الدولية الاعتبار الى تجمّعها. فتح اجتماعها الاخير في اليرزة الخميس الفائت باب التكهن واسعاً امام توقيته بعد ثلاثة اشهر ونصف شهر من اندلاع حرب غزة، أفضى بدوره الى الاعتقاد بربط حتمي بين مآل ما يجري بين اسرائيل وحماس وبينها وحزب الله، وبين الاستحقاق الرئاسي المؤجل. قبل 6 تشرين الاول ثم بعده، لم يطرأ ادنى تحوّل على ثبات الافرقاء اللبنانيين على فيتواتهم المتبادلة بتعطيل انتخاب الرئيس، رغم زيارات ثلاث للموفد الفرنسي الخاص جان ايف لودريان لبيروت في تموز وايلول وتشرين الثاني 2023. منذ حرب غزة شاع ان الاستحقاق مؤجل الى زمن غير محدد، الى ان يتوقف اطلاق النار فيها وتنخرط في تسوية سياسية.
عزز شيوع هذا الرأي موقف حزب الله بتأكيد ادارته الظهر لانتخاب الرئيس الى ما بعد انتهاء تلك الحرب وهو صاحب اقوى الفيتوات. على مر ذلك الوقت، لم يكن ثمة ما يتيح بعث الروح في الخماسية الدولية دونما حدوث اي مفاجأة تحوط بالاستحقاق، الى ان التأمت أخيراً قبل يومين. حصيلة تأويل اجتماعها هذا لم يختلف عن كل ما قيل عن اجتماعاتها السابقة: الخوض في المواصفات وتفادي الاتيان على اي اسم او تبني اي احد. اذا الخماسية الدولية على صورة الافرقاء المحليين: المراوحة مكانها في انتظار صدمة ليس معلوماً هل تأتي؟
على ان استحواذ اجتماع اليرزة على تأويلات وتوقعات اوسع تشعباً، وان بَانَ انها مستعجلة، نجم عن بضعة معطيات في مدة قياسية في الايام الاخيرة:
1 – تحريك اجتماعاتها بمبادرة من السفير السعودي وليد البخاري للمرة الاولى، بعدما اعتادت عليها من خلال الفرنسيين والقطريين بالتناوب. تكمن اهمية الدينامية الجديدة في ان الرياض اظهرت نفسها على الدوام على انها اكثر الاعضاء تحفظاً في الخوض في الاستحقاق، سواء بتأييد مرشح او معارضة آخر، خلافاً لما عبّرت عنه مراراً باريس والدوحة وواشنطن مباشرة او على نحو غير مباشر. في كل محطة لكل منها اسم يظهر ثم يغيب ثم يظهر سواه ثم يغيب. تدعم وتمنع. لم تخرج الرياض في الاجتماع الاخير عن التحفظ نفسه، بيد انها توخت ابراز اهتمام خاص عبّر عن انعقاد الاجتماع في مقر سفيرها. اذ لم يسبق ان استضافت، كالآخرين، اجتماعاً. فعلها الفرنسيون في باريس في 6 شباط 2023، والقطريون في الدوحة في 17 تموز، والاميركيون على الارض الاميركية في نيويورك في 19 ايلول.
غير المعروف في العلاقات السعودية – الايرانية: اي منهما يريد الاقتراب من الآخر اكثر، وقبل؟
2 – استقبال البخاري نظيره الايراني مجتبى اماني الاثنين الفائت في لقاء نادر بينهما، يُفترض ان تليه خطوة مكملة هي رد البخاري الزيارة لاماني في وقت لاحق في السفارة الايرانية، تكريساً لحوار دولتيْهما. حمل السفير الايراني الى قيادة حزب الله كلاماً ايجابياً سمعه من نظيره عنه. افصح اجتماعهما عن تطور علاقات البلدين ورغبتيْها في عدم العودة الى الخلاف ما يترك انعكاسات على الملفات المشتركة بينهما، ابرزها تلك الوثيقة الصلة بحلفائهما. المهم غير المعروف الى الآن في العلاقات السعودية – الايرانية: اي منهما يريد الاقتراب من الآخر اكثر، وقبل؟
3 ـ لم يتزحزح الثنائي الشيعي عن تمسّكه بمرشحه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. كذلك المقاطعة المسيحية المتشددة في رفض ترشيح فرنجية الذي يحتاج الى غطاء مسيحي كي يصبح رئيساً. بين قطبيْن متنافريْن يصعب في ظل خياراتهما المسبقة من الاستحقاق التوافق بينهما، ادخل الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط تطوراً غير مسبوق على ما كان يقول به، ويصرّ عليه. بعد اربعة ايام على تلبيته دعوة الى عشاء في السفارة الايرانية في ضيافة اماني، وبعد 48 ساعة على اجتماع سفيريْ السعودية وايران، قال انه «في موقف شخصي» لا يمانع في انتخاب فرنجية. لم يعد جنبلاط نائباً كي يقترع، ويحرص على ابراز استقلال قيادة ابنه النائب تيمور جنبلاط بقراراته وكذلك نواب كتلته، وكلاهما الابن وغالبية نواب الكتلة مناوئون لرئيس تيار المردة. في نهاية المطاف لا يزال جنبلاط الاب المرجعية المُحتكم اليها. يصبح كلامه ذا مغزى بعدما سبقته زيارتان متبادلتان ومصالحتان بينه وبين فرنجية الاب، وبين وارثيْ البيتيْن طوني فرنجية وجنبلاط الابن. انتمى الابوان الى مرحلة كانا في خلالها في صلب النظام السياسي الذي ارسته سوريا في الداخل، ورمزيْن غير مستغنى عنهما في اي حكومة واي تحالف حينذاك قبل افتراقهما عام 2005. منذ انتخابات 2018 اصبح الابنان واجهتيْ البيتيْن قبل ان يفرّق بينهما الاستحقاق الرئاسي اخيراً. ذلك ما يفترض ان يُفسِّر كلام جنبلاط الاب عن دعم ترشيح فرنجية على انه استدراك متأخر لنتائج المصالحة تلك.
4 – أعاد اجتماع خيمة اليرزة الخميس، ضمناً، تأكيد ما قالته اجتماعات الخماسية الدولية على المستوى الوزاري وما فوق في باريس والدوحة ونيويورك: مواصفات دونما الخوض في الاسماء او تبني مرشح ما. ما تسرّب عنه ان السفراء الخمسة في صدد وضع مشروع تسوية تتيح انتخاب رئيس على ان يتوافق اللبنانيون من تلقائهم على الاسم الاكثر بعثاً لاطمئنان كل من الافرقاء. لم يُدخل الاجتماع الاخير اي تطور على مهمة الخماسية الدولية: عارفاً بقوة الفيتوات المحلية المذهبية الاداء، عارفاً بأن المُحاور الفعلي له الذي يحتاج الى اقناعه هو الثنائي الشيعي وخصوصاً حزب الله، عارفاً بأن جدية مهمته إما ان يقنعه بالتخلي عن فرنجية او مجاراته في الذهاب الى انتخابه، عارفاً ايضاً ان المرشحين الفعليين للاستحقاق اثنان فقط احدهما معلوم هو فرنجية والآخر مجهول هو المرشح الثالث، اي مرشح ثالث، عارفاً فوق ذلك كله ان المواصفات وحدها لا تأتي بالرئيس اللبناني بل موازين القوى الداخلية معطوفة على مقدرة الدول الخمس على التأثير على الناخبين المحليين.