أكثر فأكثر، يُظهر «حزب الله» براعته في الإمساك بزمام اللعبة السياسية. وبشكل غير مسبوق، هو يبدو صاحبَ الكلمة المقرِّرة في الاستحقاقات كلها، من ترسيم الحدود إلى الاستحقاق الرئاسي مروراً بحركة المجلس النيابي والحكومة.
لم يطُل أمد «الإنذار» الذي وجّهته قوى السلطة، بالدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء في غياب رئيسٍ للجمهورية. وتمّ التذرّع بالمبرِّر الإنساني والاجتماعي لعقد الجلسة. ولكن، في أي حال، كان سهلاً على ميقاتي إيجاد أي مبّرر آخر، إن لم يكن بأدوية الأمراض المستعصية فبسواها.
الهدف من الجلسة هو الضغط على القوى المسيحية لدفعها إلى التنازل في الملف الرئاسي. وحتى ساعات قليلة قبل الموعد الذي حدَّده ميقاتي للجلسة، بدا الرجل واثقاً من أنّ نصابها سيكتمل، على رغم البيان الذي أصدره الوزراء المسيحيون المحسوبون على الرئيس ميشال عون و«التيار الوطني الحر»، ومعهم الوزير أمين سلام، وزير «الطاشناق» جورج بوشيكيان والوزير عصام شرف الدين، المحسوب على النائب السابق طلال إرسلان. وثمة من قرأ في قيام بوشيكيان بتأمين النصاب على أنّه نتيجة إشارة من «حزب الله» لـ«كسَر» عناد عون وباسيل.
على الأرجح، ارتكب «التيار» خطأ تكتيكياً برهانه على النصاب لتعطيل الجلسة. فهذا الرهان لا يمكن البناء عليه في بلدٍ كلبنان، حيث «الوزير الملك» جاهز دائماً «غبَّ الطلب»، وفي غالبية الحكومات والعهود.
والأكثر ضماناً كان التشبث بالموقف المبدئي القائل بعدم دستورية الجلسة وعدم ميثاقيتها. فهذا الموقف تتقاطع حوله القوى المسيحية السياسية والدينية، وبه تستطيع تشكيل قوة ضاغطة. وفي أي حال، يبقى هذا الموقف أكثر ضماناً من الرهان على الثلث المعطل، خصوصاً بعد خروج عون من السلطة وتراجع رصيده، وضعف العلاقة التي تربطه ببعض الوزراء المحسوبين على «التيار» أو على حلفائه.
ولكن، من الواضح أنّ «حزب الله» يتجنّب حتى اليوم تحديد خياره النهائي الحاسم في الملف الرئاسي. وهو يتعاطى بهدوء مع ترشيح حليفه القديم، رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، الذي يحظى بدعم القيادات الاسلامية. لكن حاجة فرنجية إلى الدعم المسيحي يحتّم على «الحزب» معالجة هذه الفجوة كشرط لتمكينه من بلوغ موقع الرئاسة. وسيكون على «الحزب» أن يقرِّر:
هل يدفع برئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل إلى تأييد فرنجية مع ضمان موقع مميَّز له خلال العهد، أم يذهب مباشرة إلى دعم باسيل فيضرب عصفورين بحجر واحد: تأمين الميثاقية المسيحية للرئيس- على غرار الميثاقية التي توافرت لعون- وضمان موقع الحليف المسيحي الأساسي، أي «التيار»، 6 سنوات أخرى، «من دون وجع رأس»؟
بالنسبة إلى «الحزب»، فرنجية يستحق الموقع حالياً، وبكل المقاييس، وهو قادر على تحصيل دعم إقليمي ودولي. ولكن، هل سيتمكن من تذليل العقبات المسيحية؟
ثمة مَن يقول إنّ إعطاء «الحزب» ضوءاً أخضر لعقد جلسة للحكومة، يوحي أنّه أراد توجيه رسالة قاسية إلى باسيل، مفادها الابتعاد وإخلاء الساحة للحليف الآخر فرنجية. وفي إمكان «الحزب» استخدام أوراق ضغط أخرى كإطلاق جلسات الرقابة والتشريع في المجلس النيابي، تحت عناوين «الضرورة» التي يبيحها الدستور.
لكن آخرين يعتقدون أنّ من المبكر الحديث عن خيار «حزب الله» النهائي. فـ«الحزب»، المعروف بـ«النفَس الطويل»، سيترك للظروف أن تفعل فعلها في إنضاج اللعبة الرئاسية، بعيداً من مناخات التحدّي، لتأتي في شكل سلس قدر الإمكان، خصوصاً بين مرشحَيه المفضلَين: باسيل وفرنجية.
حتى اليوم، لا يبدو أنّ الصفقة الرئاسية قد اكتملت، وأنّ «الحزب» قد حصل على «الثمن» الذي يتقاضاه مقابل موافقته على رئيس من خارج لائحة حلفائه الأقربين. والخيار التوافقي الوحيد يبقى قائد الجيش العماد جوزف عون.
إذا وافق «حزب الله» على دعم العماد عون، فسيكون وصوله مضموناً. إذ إنّه الوحيد الذي يحظى بدعم شامل مسيحي وإسلامي، وبتغطية عربية وإقليمية ودولية.
ولكن، بالتأكيد، يريد «الحزب» أن «يَطْمَئنَّ» إلى أنّه سيُمضي مع «العماد عون الثاني» 6 سنوات مريحة، وبعيدة من «التأثيرات الأميركية والغربية» التي يُقال إنّها تلفح غالباً قادة الجيش في لبنان. أي إنّ «الحزب» يشترط التفاهم أولاً على «أجندة» كاملة يتمّ إقرارها قبل الموافقة على الخطوة، منعاً لتكرار ما حصل بينه وبين الرئيس ميشال سليمان.
في حسابات «حزب الله»، الخيارات الثلاثة قابلة للنقاش: باسيل وفرنجية وقائد الجيش. ولكنه ليس مستعجلاً، والجوجلة ما زالت في بداياتها.