ليس تفصيلاً أن تتقاطع خمس دول (أميركا، فرنسا، السعودية، مصر وقطر) على تشكيل لجنة خماسية مهمتها السهر على الأوضاع اللبنانية، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية وصولاً إلى تجنيبه الحروب وما بينهما تنفيذ القرارات الدولية والشروع في ورشة إصلاحات مالية.
من حَظ لبنان واللبنانيين وجود مرجعية دولية تهتم بشؤونهم، وتلتئم في اجتماعات لمتابعة قضاياهم، وتشكّل مظلة لطمأنتهم، ولكن هذه المرجعية المتمثلة باللجنة الخماسية تألّفت بعد دخول لبنان في الشغور الرئاسي وحدّدت أولويتها بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يفتح الباب أمام الانتظام والإصلاحات ويُعيد الاستقرار السياسي والمالي، وعلى رغم جهودها الحثيثة اصطدمت بلاءات فريق 8 آذار: لا لجلسةٍ بدورات متتالية تؤدي إلى انتخاب رئيس، لا لتشاور ثنائي إنما الإصرار على حوار كشرط ملزم، لا لخيار ثالث إنما الإصرار على نفس المرشّح على رغم عدم القدرة على انتخابه.
وعلى رغم الإدراك لمدى انشغالات كل دولة من دول الخماسية بالأزمات العالمية وما أكثرها وآخرها حرب غزة وقبلها الحرب الأوكرانية، وعلى رغم إدراك تعقيدات الوضع اللبناني، إلا انه وبعد تعذّر انتخاب رئيس جمهورية لا بدّ من ان تُعيد اللجنة الخماسية ترتيب أولوياتها فتجمِّد مساعيها الرئاسية وتُبدّي أولوية حلّ الأزمة اللبنانية لا أزمة الشغور الرئاسية، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً، لأن الانتخابات الرئاسية في حال تمّت بالتوافق على مرشّح ضمن الخيار الثالث ستؤدي إلى عودة الانتظام والاستقرار والتبريد السياسي، ولكن كل ذلك سيكون مؤقتاً. فإذا حُلّت رئاسياً تتعقّد حكومياً، وإذا حُلّت حكومياً تتعقّد سياسياً ووطنياً، وإذا انفرجت على المستويات كلها يبقى هذا الانفراج مؤقتاً في ظل فريق يربط لبنان بالخارج ويرفض تسليم سلاحه، فضلاً عن انّ عودة الانتظام لا تعني القدرة على الإصلاح والإنجاز، والدليل انّ حكومات اللون الواحد التي أعقبت ثورة 17 تشرين، وهي حكومات متجانسة، لم تنجح لا بوقف الانهيار ولا بالإصلاح، والسبب بسيط كَون الفريق المُمسك بالسلطة اليوم ليس بوارد الإصلاح الذي في حال حصوله يتناقض مع طبيعة وجوده ودوره.
ثانياً، لأن الأزمة الفعلية في لبنان ليست رئاسية او حكومية، إنما أزمة بين من يريد لبنان دولة طبيعية يحكمها دستور وجيش وسلاح واحد وقضاء وقانون ولا أولوية لها خارج بلدها وشعبها لجهة تأمين استقراره وأمنه وازدهاره ورفاهيته، وبين من يريد لبنان ساحة من ساحات مشروعه الإقليمي ودور الدولة يقتصر على تغطية هذا المشروع، أي إبقاء لبنان ساحة حرب وقتال وعنف وفوضى، ورئاسة الجمهورية بهذا المعنى لا تقدِّم ولا تؤخِّر، وستكون إمّا شاهدة زور على انتهاك السيادة والدستور والمؤسسات والرئاسات، وإمّا عاجزة عن فعل اي شيء لمعالجة الأزمة الفعلية، وإمّا شريكة لفريق الأمر الواقع.
ثالثاً، لأن الترقيع المعتمد منذ العام 2005، تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان، أدى إلى مزيد من إضعاف الدولة وتهميشها وإفشالها وتعطيلها وانهيار عملتها، وبالتالي سياسة الترقيع فشلت فشلا ذريعا، وأظهَرت بعد 19 سنة ان الوصول إلى دولة فعلية مستحيل مع فريق يصرّ على مصادرة قرار الحرب وهو قرار سيادي بامتياز وأحد أهم مقومات الدولة، كما أظهرت انّ إجراء إصلاحات مالية ومكافحة الفساد وإرساء العدالة مع فريق يصرّ على سلاحه غير الشرعي غير ممكن إطلاقاً.
رابعاً، لأن الشعب اللبناني لم يعد يحتمل تجارب فاشلة ويريد العيش بأمن وأمان واستقرار وازدهار، الأمر الذي يستحيل تأمينه مع فريق يرفض ان يلتزم بالدستور والميثاق والشراكة والمساواة، خصوصا ان الأزمة اللبنانية مستمرة فصولاً منذ العام 1967، أي منذ 57 عاماً، ولم يعد من المقبول ولا المسموح استمرارها بفصل جديد يُدخل البلد في استقرار هَشّ يسقط عند أوّل مفترق، فيما لن يؤدي تشكيل سلطة جديدة إلى وضع مسار الدولة على الطريق المطلوب.
خامساً، لأن الانهيار المالي بلغ حداً غير مسبوق، وشَلل الدولة يفوق أي تصوّر، والشغور يتمدّد على كل المؤسسات، وقرف اللبنانيين ويأسهم من استعادة بلدهم حياة طبيعية لا يوصف، والانقسام السياسي يتعمّق ويتوسّع. وانطلاقاً من كل ذلك من الضروري الدفع باتجاه حلول نهائية لا مرحلية تؤدي إلى إنهاء الأزمة وليس الى ترحيلها، كَون المسكنات لم تعد تنفع ولا تُجدي.
سادساً، لأن أي تسوية جزئية تفرضها الظروف لن تكون أفضل من تسوية التحالف الرباعي التي انتهت في 7 أيار 2008 وما سبقها من إقفال وسط العاصمة ومحاصرة السرايا وتخوين الحكومة، ولن تكون أفضل من تسوية الدوحة التي كانت برعاية دولية إقليمية وانتهت بالقمصان السود وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وإخراج 14 آذار منها وتشكيل حكومة اللون الواحد، ولن تكون أفضل من تسوية العام 2016 التي انتهت بثورة 17 تشرين بسبب ربط لبنان بإيران ورفض الإصلاحات وإدارة البلد نحو الانهيار. وبالتالي، إنّ مصير اي تسوية جديدة لن يختلف عن سابقاتها، وهذا بديهي وطبيعي كَون المشكلة التي أدت إلى انفراط التسويات ما زالت نفسها وهي وجود فريق يُصادِر قرار الدولة ويمنع قيامها.
سابعاً، لأن التجربة أقوى دليل، و»من جَرّب المجرّب كان عقله مخرّب»، فهل يعقل الرهان على تسوية مع فريق بادرَ إلى أربعة حروب في أقل من عقدين (19 سنة): حرب تموز 2006، حرب أيار 2008، حرب سوريا 2011، حرب غزة 2023؟ وهل يعقل الرهان على تسوية مع فريق يعتبر انّ قرار الحرب شأنه وحده ولا دخل للبنانيين بهذا القرار الذي عليهم تغطيته وإلا يتم تخوينهم؟ وهل يعقل الرهان على تسوية مع فريق يعتبر انّ سلاحه خارج النقاش والتداول ووُجَد ليبقى، وأيّ دولة يمكن الرهان عليها أساساً في ظل ثنائية الميليشيا-الدولة، والتجربة الطويلة تؤكد انه ما لم يتم الفصل بين هذه الثنائية فإنّ الواقع المأزوم سيتمدّد فصولاً؟
ثامناً، لأن الرهان على المجهول غير مسموح، فـ»حزب الله» لن يسلِّم سلاحه، ونَزعه بالقوة غير ممكن، وبناء دولة معه مستحيل. وبالتالي، لماذا هذا الإصرار على مواصلة المحاولات الفاشلة، خصوصاً ان عامل الوقت يعمل لمصلحته من خلال التمدُّد الديموغرافي والجغرافي مقابل هجرة كثيفة بسبب اليأس من بلدٍ يدور في حلقة مفرغة ولا يخرج من مستنقع الفوضى والخراب واللا دولة؟
تاسعاً، لأن عملية «طوفان الأقصى» أعادت الاهتمام الدولي إلى الشرق الأوسط، ولبنان يعاني من انعكاسات أزمات الشرق على استقراره، وتحديداً من محور الممانعة الذي يخطف قرار الدولة ويُبقي لبنان ملحقاً بإيران. وبالتالي، على رغم دموية الحرب القائمة وبشاعتها وفظاعتها، فإنّ الحروب تقدِّم فرصاً لتغيير أوضاع، ويجب تحويل هذه الحرب مناسبة لِلبننة الحدود وإمساكها للمرة الأولى منذ خمسة عقود من قبل الشرعيتين اللبنانية والدولية، والدفع باتجاه تطبيق القرارات الدولية.
عاشراً، لأنّ وجود اللجنة الخماسية كمظلة سياسية تهتم بشؤون اللبنانيين وتسهر على وضع لبنان يشكّل فرصة استثنائية قد لا تتكرّر في مستقبل قريب، ولأنّ هذه اللجنة عايَنت الواقع اللبناني بدقة وتَعلمُ تمام العلم الأسباب العميقة للأزمة اللبنانية، فإنّ هذه اللجنة مدعوّة لتجميد المساعي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية لن يقدِّم ولن يؤخِّر في معالجة جوهر الأزمة ومَكمن الخلل في البنيان اللبناني، والانتقال إلى بحث السبل التي تُنهي الأزمة اللبنانية، ووضع جهودها في المكان الصحيح بدلاً من هدرها في حلول جزئية ستنهار حتما بعد وقت قصير، وبالتالي هي مدعوة إلى ثلاث خطوات أساسية:
الخطوة الأولى: أن تُعلن انها بعد ان وضعت كل جهد لازم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبعد ان اصطدمت دائماً بمعادلة إمّا مرشحي أو الشغور، قررت تجميد مساعيها الرئاسية وتحريك مساعيها لإيجاد حلول جذرية للأزمة اللبنانية.
الخطوة الثانية: ان تُعلن انّ أحد الأوجه الأساسية للأزمة اللبنانية هو ربط لبنان بمحاور الصراع في المنطقة، وان حرب غزة يجب ان تقدِّم حلاً للفلسطينيين واللبنانيين، ومعلوم انّ الوضع اللبناني أسهل بكثير من الوضع الفلسطيني، وانّ انتهاء الحرب يجب ان يشكل مدخلاً لمؤتمر دولي لإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي الذي لم تعد تقتصر انعكاساته السلبية سوى على اللبنانيين والفلسطينيين، باعتبار ان سوريا ختمت حروبها مع تل أبيب في العام 1973 ووضعت الختم في مكان سرّي للغاية.
الخطوة الثالثة: أن تُعلن تدويل لبنان وتوجِّه دعوة للبنانيين إلى حوار في الخارج يكون ملزماً بنتائجه تحت عنوان إعادة هندسة التركيبة اللبنانية على قاعدة مركزية الدولة بحدودها وسيادتها ولامركزية الطوائف بخصوصياتها وتعدديتها، وطَي صفحة تجربة فاشلة بعنوان السعي إلى إلغاء الطائفية، لأنّ هذه التجربة أبقت لبنان وسط الحروب والفوضى.