تترقّب الأوساط السياسية والديبلوماسية ما يمكن ان تؤدي إليه الإتصالات الجارية على أكثر من مستوى لمعالجة الوضع في غزة وانعكاساتها على الجنوب والمنطقة، وسط تداخل غير مسبوق بين الأزمات الداخلية وما يجري في القطاع. وكل ذلك يجري وسط اعتقاد يتعزز يومياً بأنّ انتظار المواجهة التي تقودها واشنطن للتحكّم واحتكار المخارج المحتملة على حساب مبادرتي باريس ولندن، امر واجب الوجوب، وهذه هي المؤشرات.
ليس من المنطقي ابداً ان نتوقع كثيراً مما يؤدي الى إحياء البحث الجدّي في الاستحقاق الرئاسي كنتيجة حتمية لما يمكن ان تقود اليه المبادرات الداخلية، ولا سيما منها تلك التي أطلقها تكتل «الاعتدال الوطني» في الفترة الاخيرة، كما بالنسبة الى الحراك الذي قاده النائب الدكتور غسان سكاف والتواصل بين اقطاب المعارضة، من أجل مواكبة الاقتراحات المطروحة. وكل ذلك يجري في وقت اقتصرت ردّات الفعل الأخرى على ما يقوم به رئيس مجلس النواب نبيه بري بطريقة توحي انّه يقوم بها من موقعه رئيساً لمجلس النواب المُلقى على عاتقه مسؤولية انتخاب الرئيس قبل القيام بأي عمل آخر، وليس على مستوى ما يمثله على مستوى «الثنائي الشيعي». فشريكه «حزب الله» منشغل بالعمليات العسكرية، وقد جمّد مختلف نشاطاته الإنتخابية بما يتصل بالاستحقاق الرئاسي على خلفية انتظاره ما يمكن ان يؤتي به الميدان في المواجهة المفتوحة مع اسرائيل على كل جديد محتمل بين لحظة واخرى تحت شعار «المساندة والإلهاء»، في إطار انخراطه في الحرب الدائرة في قطاع غزة بين اسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
وإن كان اركان المعارضة قد كثّفوا من اتصالاتهم في الأيام الأخيرة في مواكبتهم لاقتراحات تكتل «الاعتدال»، وما نمي إليهم من استعدادات محتملة يمكن ان يُقدم عليها بري في لحظة غير محسوبة حتى الآن، فإنّ ما هو ثابت ومعلن انّه وحتى كتابة هذه السطور، انّ هدفهم ما زال يقتصر على تعزيز كل أشكال الوحدة التي ترجمها التقاطع الرئاسي الأخير الذي ما زال قائماً حول ترشيح الوزير السابق جهاد ازعور. وهم واثقون من انّ اي مواجهة يمكن ان تصل اليوم في جلسة نيابية انتخابية ما زالت محصورة بينه وبين الوزير السابق سليمان فرنجية مرشح «الثنائي الشيعي»وحلفائه. وهو واقع لا يتأثر ولا يتبدّل قبل ان تظهر عوامل اخرى تقود الى البحث عن «المرشح الثالث» المُدرج على لائحة قد تقصر وتطول بين فترة واخرى، ولم تسمح بعد الظروف بالفصل في السباق القائم بين اسماء المدرجين على هذه اللائحة.
وانطلاقاً من هذه المعادلة التي لا يرقى إليها الشك على مستوى المعارضة، في ظلّ ما هو متداول به من معلومات، فإن التوجّه نحو ما يجري من اتصالات ومبادرات خارجية يتقدّم على سواه من الرهانات الاخرى، ليس للتوصل الى ما يمكن فرضه من اسماء وخيارات، وهي باتت مستحيلة، بل من اجل الوصول الى نقطة يمكن ان تتلاقى فيها الجهود الإقليمية والدولية مع الداخلية من اجل فكفكة الأزمات المتلازمة في البلاد، والتي يتقدّم فيها الملف الامني على الدستوري. وهي آلية ليس من السهل الوصول اليها خصوصاً إن كان المطلوب منها ان تمهّد للحل في الجنوب بعد وقف النار، ليتسنّى التفرّغ للاستحقاق الرئاسي الذي يُنتج رأساً للسلطة الإجرائية في لبنان. فهو المؤتمن بالدرجة الأولى على رعاية المراحل التنفيذية لما يتمّ التوصل اليه من موقعه الدستوري الذي لا بديل منه بما هو قائم من سلطات عرجاء أو معطّلة نسبياً.
ولهذه الأسباب وسواها من تفاصيل، تتمثل بالعوائق دون الفصل بين الاستحقاق الرئاسي والأمني في الجنوب وقطاع غزة بقوة قاهرة، فقد ثبت انّ الادارة الاميركية تشاطر إيران ووكلاءها في المنطقة الرأي على اولوية معالجة وضع غزة قبل المباشرة بالحلول المقترحة لبقية الأزمات المرتبطة بها والمتناسلة منها، ومن بينها ما يجري في لبنان. وعليه بُنيت النظرية التي قالت برغبة أميركية في احتكار البحث عن المخارج، فتهاوت المبادرات واحدة بعد أخرى منذ ان سعت باريس عبر موفدها الرئاسي جان ايف لودريان لتوفير حل ما، وقبلها المبادرة القطرية التي نمت تحت جناح «الخماسية» الدولية قبل ان تهوي مبادرات أخرى تتصل بالوضع في الجنوب، ولا سيما منها البريطانية، التي قالت بما تفرّدت به من بناء أبراج مراقبة على غرار تلك القائمة على الحدود اللبنانية ـ السورية.
وعليه، فقد اختصرت مراجع ديبلوماسية ما يؤدي الى هذه المعادلة المتعلقة بالمبادرتين الفرنسية والبريطانية بالملاحظات الآتية:
– تعطّل الماكينة الفرنسية لا يتصل بما يجري في غزة منذ 7 تشرين الاول، فهي متعثرة من قبل ان يتسلّم لودريان مهمّاته، وهي بقيت تتأرجح بين ما يرضي «الثنائي الشيعي» ويُغضب الآخرين، الى ان قلبت باريس الصفحة فخسرت هذا الرضا إلى درجة وصفت مبادرتها الأخيرة بأنّها «من إنتاج اسرائيلي وبخط فرنسي». ولم تنفع عملية استبدالها من كونها «سلّة أفكار» حملها وزير الخارجية الفرنسي الجديد ستيفان سيجورنيه إلى بيروت بمبادرة رسمية حملت خاتم باريس وشعارها لم يتغيّر الموقف منها. وإن تأخّر الجواب اللبناني اياماً عدة فقد أصبحت باريس في الجو السلبي قبل ان تتسلّم الردّ قريباً والذي يحمل خاتماً رسمياً لبنانياً يُترجم رفض «حزب الله» لها.
– المبادرة البريطانية ظهر واضحاً انّ مصيرها شبيه بمصير الفرنسية، وهي مرفوضة بكل المقاييس وخصوصاً لجهة بناء الأبراج في الجنوب مخافة ان تتحول لتراقب الجانب اللبناني بدلاً من الإسرائيلي، وهو ما ترجمه الكتاب الموجّه من سوريا، في اعتبارها احدى دول محور الممانعة وليس بأي صفة اخرى، الى الخارجية اللبنانية، والذي عبّر عن مخاوف دمشق على أمنها القومي من الأبراج البريطانية التي بُنيت قبل اكثر من 10 سنوات على حدودها وادّت مهمّات لمصلحة الأمنين اللبناني والسوري. وهو ما ادّى الى تفسيره على انّه كتاب طُبع في بيروت ونُشر في دمشق تعبيراً عن رفض المشروع البريطاني في الجنوب، وللدلالة الى أنّ المشروع قد تمّ وأده في المهد. فالرسالة التي سيردّ بها لبنان على دمشق ستحمل تكراراً لأخرى وُجّهت قبل 5 سنوات تشرح ما يمكن شرحه بإيجابية متبادلة بين العاصمتين.
على هذه القواعد، وبناءً على ما تقدّم، يجزم ديبلوماسي لبناني معني بما يجري من اتصالات، فيقول انّ ما يجري يثبت انّ هناك نية عبّرت عنها واشنطن بلسان موفدها الرئاسي إلى بيروت والمنطقة عاموس هوكشتاين، الذي يرغب باحتكار جهود التسوية في لبنان بوجهيها الأمني والدستوري، ولن يسمح لأحد بمشاركته في البحث عن حل يبدأ بالأمن على الحدود وينتهي بتقصير مهلة خلو سدّة رئاسة الجمهورية. وأنّه يستند الى موافقة ايرانية ضمنية، في انتظار ان تليها موافقة الأطراف الاربعة الآخرين من أركان «الخماسية»، وهو ما تفسّره برودة هوكشتاين تجاه لبنان إلى ان يحين الوقت المناسب ليتحرّك في اتجاه يقود إلى الانفراج بعد ضمان الحدّ الأدنى من تأجيل الانفجار، مهما علت صيحات التهديد من تل أبيب وهدير الطائرات في سماء لبنان وصليات الصواريخ فوق الجليل الاعلى.