بعد ساعات من بدء عملية «طوفان الأقصى»، كانت الدبلوماسية المصرية بين أول المتصلين بحزب الله لحثّه، باسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على «الاحتواء» و«عدم توسيع الإسناد». وإذا كان ثبات القاهرة أمام الضغوطات لفتح معبر رفح باتجاه واحد للاجئين الفلسطينيين حال حتى اليوم دون إفراغ قطاع غزة من أهله كما يرغب الإسرائيليون، إلا أن أحداً لا يملك ضمانات أو تصوّراً نهائياً عما سيحصل بعد الهجوم الإسرائيليّ الموسّع المنتظر على جنوب غزة. فما بدأ محاولة فلسطينية لإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية في مواجهة التطبيع والتهجير واستراتيجية القتل البطيء، تحوّل إلى محاولة إسرائيلية لاقتلاع غزة من جذورها وإعادة رسم كامل المنطقة.يستفيد التنسيق الأميركي – الأوروبي – الإسرائيلي – الخليجي من تعب شعوب المنطقة من الحروب المتلاحقة، في وقت تبدو الصين غير معنيّة طالما أن الصراع في الشرق الأوسط يبعد الأنظار عنها، وروسيا منشغلة بالحرب في أوكرانيا. وهو ما يعيد الإدارة الأميركية إلى حلمها القديم بشأن الشرق الأوسط الجديد.
منذ اللحظات الأولى لـ«طوفان الأقصى»، تصرّف حلفاء حماس، يتقدّمهم حزب الله في لبنان، بحذر شديد لإدراكهم بأن ما يجري لا يشبه كل ما سبق من جولات قتالية وحروب إسرائيلية. لم يخرج تنسيق الحزب وحماس عن مساره الثابت منذ أن أبلغ الشهيد صالح العاروري السيد حسن نصرالله، مباشرة صباح السابع من تشرين، بما يحصل. فيما خرجت مشاعر حماس تجاه الإسناد عن المسار هبوطاً وصعوداً في الشهرين الأولين، قبل أن تستقر عند دقة التقييم الذي أجراه الحزب واتّخذ قراره على أساسه، خصوصاً لجهة إبقاء الحرب المباشرة مع إسرائيل فقط، وعدم تسهيل الاستدراج الإسرائيلي للولايات المتحدة للانخراط مباشرة في الحرب. ورغم كل القدرات الصاروخية التدميرية لمحور المقاومة، والاستنزاف الجدي للجيش الإسرائيلي على أيدي فصائل المقاومة، وتعب هذا الجيش، إلا أن ما يحصل لا يشي بانفراجات: فأكثرية التقارير الدبلوماسية جدية تنتهي إلى أن هذه معركة وجود بالنسبة إلى إسرائيل، لا حساب فيها للرأي العام العالمي أو الركود الاقتصادي أو الخسائر المالية والبشرية أو حتى الرهائن.
في هذا المشهد الإقليميّ المفتوح على كل أشكال التحوّلات، حيث ما من شيء ثابت ونهائي بالنسبة إلى الأميركي والأوروبي والإسرائيلي والخليجي، لا يكاد يغادر موفد أممي مطار بيروت حتى يصل آخر، وما إن يودّع مطارُ الدوحة مسؤولاً لبنانياً حتى يستقبل آخر، فيما على الأجندة بند وحيد: أمن إسرائيل بعد «الانتهاء» من غزة. الإسناد الأميركي لإسرائيل، في ما يتعلق بلبنان، لا يقتصر على المال والسلاح والتكنولوجيا الأمنية، بل يتجاوزها إلى الضغط الإعلامي والسياسي والدبلوماسي. صحيح أن أحداً لا يرفع شعار نزع السلاح مثلاً كما كان قبل أكثر من عشر سنوات، غير أن الهدف المرحلي هو: انتخاب رئيس. تريد الولايات المتحدة انتخاب رئيس أولاً، بما يسمح باستعادة الحد الأدنى من التوازن السياسي الذي خسره خصوم الحزب بالكامل حين أخرجوا أنفسهم من دائرة صناعة القرار السياسي الرسمي. وإذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أنّب قبل ثلاث سنوات رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل لإضاعتهما وقته في قصر الصنوبر بعناوين، كسلاح حزب الله، لا قدرة لهم على التأثير فيها، يحدّد الأميركي لخصوم الحزب اليوم عنواناً يمكن تحقيقه: انتخاب رئيس. وهو ليس هدفاً بحدّ ذاته، إنما وسيلة تسمح للأميركي بالتقدّم براحة أكبر إلى المرحلة الثانية من الحرب، المتعلقة بالحدود اللبنانية الجنوبية. علماً أن السلاح الذي حرص حزب الله على إظهاره في الميدان، والسلاح الآخر الذي حرصت إيران على إظهاره في إحدى المناورات أخيراً، سحبا الليطاني من التداول بعد تأكيد المؤكد بأن مشكلة إسرائيل أبعد من الليطاني بكثير.
لكنّ واحدة من العثرات التي تسعى الولايات المتحدة إلى حلها تكمن في عدم وجود سلطات سياسية موثوقة في البلد، كما في عام 2006، تساند الضغط الأميركي وتحاول أن تضمن الاتفاقات. من هنا تأتي دينامية «الخماسية»: فرغم الهموم المصرية، ينشغل السفير المصري في لبنان بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. ورغم ما تواجهه حماس، لا يسأل الموفدون القطريون عن أوضاع الحركة في لبنان أو عن الجبهة الجنوبية بل عن «انتخاب الرئيس». وقد لا يُستبعد أن يصحو مجلس الأمن من سباته ليصدر بيان دعم وتأييد لمبادرة «كتلة الاعتدال».
كل هذا يفرض على حزب الله مقاربة سياسية مختلفة. بمعزل عن قرار التمسك بترشيح سليمان فرنجية، لا يمكن أن تبقى الأمور بعد 7 أكتوبر وفي ظل الاستنفار الأميركي في كل الاتجاهات كما كانت قبله، تماماً كما لا يمكن تخيّل أن يطفئ الحزب محرّكاته السياسية في ذروة الدينامية الأميركية – الأوروبية – الخليجية السياسية. ولا بدّ في هذا السياق أن تستكمل المواجهة الأمنية – التكنولوجية – العسكرية – الإعلامية بتثبيت المكاسب السياسية والمواجهة أيضاً. وهو ما سيُترجم بسرعة عند الرئيس نبيه بري الذي قد يكون تعب من الضغوطات الداخلية والخارجية، ويشعر كما يقول بأنه قد آن أوان انتخاب رئيس، ولا يرى أفقاً لترشيح فرنجية في ظل الموقف المسيحي عموماً وموقف رئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل خصوصاً. لكن هذا لا يعني أبداً ما فهمته «الخماسية» على أنه تراجع أو ليونة أو تحوّل في الموقف، ما استدعى كلاماً واضحاً من مستشار بري السياسي النائب علي حسن خليل في مقابلة تلفزيونية أخيراً. لكن تشدّد بري المنتظر لا يكفي وحده، كما لا تكفي الزيارة الشكلية للرئيس ميشال عون التي تأخرت خمسة أشهر من دون أي عذر مقنع. لا بدّ من دينامية سياسية أكبر وأوضح وأجرأ لأن المعركة ليست على الجبهة العسكرية فقط. وتشير المعلومات إلى نية «الخماسية» طلب موعد جديد من الرئيس بري لتستوضح بضع نقاط، بما فيها ما يقوله أحد السفراء الخمسة عن موافقة رئيس المجلس على كل من سفير لبنان (السابق) في الفاتيكان العميد المتقاعد جورج خوري والمدير العام للأمن العام الياس البيسري، قبل أن ينطلقوا في جولة سريعة على المرجعيات الروحية والسياسية المسيحية.
تستعجل «خماسية» واشنطن انتخاب «أي كان» إلا فرنجية رئيساً
خلافاً لما يشاع، لم يكن القطري على معرفة بالبيسري منذ سنوات عندما نسّق القطريون مع الأمن العام بعد الحرب السورية، بل تعرّفوا إليه في سياق تسويقهم السابق لترشيح قائد الجيش جوزف عون، حين حاول البيسري لعب دور إيجابي مع عون على أكثر من صعيد، قبل أن ينتبهوا إلى أنه شخصية مقبولة من أكثر من فريقين أساسيين، فانتقلوا إلى ترشيحه، على نحو يوصل إلى القول إن القطري، كما «الخماسية» والأميركي، لا يريدون فرنجية رئيساً حتى لا يكون هناك تماه كامل بين حزب الله والرئيس، لكنهم يريدون أياً كان غير فرنجية رئيساً. و«أياً كان» الرئيس يمثل الدولة اللبنانية في الداخل والخارج ولا يمكن تشكيل حكومة من دون توقيعه. لذا، فإن انتخاب الرئيس نقطة الانطلاق لا نقطة الوصول، وسيلة وليس هدف، ومحطة أساسية في إعادة تكوين السلطات. وهو ما يفترض سؤالاً معجّلاً مكرّراً على جميع المستويات: نقطة الانطلاق نحو ماذا؟ وسيلة لتحقيق أيّ هدف؟ وإعادة تكوين أيّ سلطات؟ ولماذا؟