تسود الألاعيب السياسية والمناورات على التفاوض والتباحث في التحرّكات التي تتّخذ عنوان التوافق على إنهاء الفراغ الرئاسي، مرّة بحجّة ضرورة إعادة النشاط إلى المؤسسات وأخرى بالحاجة إلى تهيّؤ لبنان لمرحلة ما بعد حرب غزّة من مفاوضات في شأن ترتيبات المنطقة، وثالثة بوجوب وجود رئيس للجمهورية من أجل التفاوض على الحدود البرية مع إسرائيل، لأن الدستور ينيط به هذه المهمة.
حين يجري تضخيم الأسباب والمبرّرات للتشجيع على إنهاء الفراغ الرئاسي، من نوع العناوين المذكورة، يكتشف المرء مدى المناورة والألاعيب التي تُمارَس في شأن انتخاب الرئيس. فهذه المهمة لا تحتاج إلى هذا القدر من اختراع المبرّرات للتعجيل في إنهاء الفراغ. والأمر أبسط من ذلك بكثير.
قبل أن تكون الحرب على غزّة، وقبل مسألة التهيّؤ لمفاوضات حول ترتيبات المنطقة ومن دون الحاجة إلى الرئاسة للتفاوض على إظهار الحدود البرية مع آموس هوكشتاين، الحجة الرئيسة التي توجب انتخاب الرئيس هي تطبيق الدستور كما ينادي يومياً النائب المعتصم في البرلمان ملحم خلف، داعياً زملاءه إلى القيام بواجباتهم بالنزول إلى القاعة العامة لإسقاط الورقة في صندوقة الإقتراع. الدافع للانتخاب بسيط ولا يحتاج إلى كل العناوين الفضفاضة والبرّاقة التي لا تغني ولا تسمن. حتى أن بعض عواصم الدول المنضوية تحت اللجنة الخماسية المعنية بأزمة لبنان والرئاسة فيه، وقعت في فخ الألاعيب المحلية الصغيرة بغطاء من الشعارات الكبرى.
في كلّ الأحوال، لن يكون للبنان أيّ دور في أيّ ترتيبات تتبع حرب غزّة، كي يكون ذلك مبرّراً لتشجيع الفرقاء اللبنانيين على انتخاب رئيس قبل مؤتمر دولي لبحث من يحكم القطاع ودور منظمة التحرير الفلسطينية وأوهام حلّ الدولتين… أمّا التفاوض على إظهار الحدود البرية مع إسرائيل فليس الحجة السوية من أجل انتخاب الرئيس. هذا أمر يكفي أن يتولّاه الجيش، لأن ما نحن في صدده هو إنهاء مخالفة إسرائيل لحدود مرسّمة منذ عشرينات القرن الماضي وفق خرائط معترف بها من الشرعية الدولية وتحتفظ بها الأمم المتحدة. أما مبرّر انتخاب رئيس لأنه حجر الزاوية في تحريك مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية، ورغم أنه يبدو حجّة نبيلة في الشكل، فهو سبب مضحك وساذج لأنّ الجهات التي تحول دون ملء المركز الأول في الجمهورية هدفها الفعلي والحقيقي شلّ المؤسسات من أجل أن تصفو لها الأجواء كي تحلّ مكان تلك المؤسسات في تسيير ما يتيسّر من شؤون الدولة من خارج منطق القوانين والدستور. بالفراغ يتسنّى لها أخذ البلد إلى خيارات داخلية وإقليمية تقرّرها هذه الجهات لا المؤسسات الدستورية التي تسيّرها مبادئ وأعراف وموازين دقيقة.
من يتحكّم بشؤون البلد يتقصّد تقويض المؤسسات الدستورية لأن هذا التقويض يتيح له الحلول مكانها لأنه يلغي وظيفة الدولة المركزية. وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإن المناورات الخادعة هي التي ستبقى سائدة في شأن ملء الشغور الرئاسي. يقتضي ذلك تقطيع الوقت بالتظاهر بالعمل لانتخاب رئيس، خارج القواعد الدستورية، واقتراح أفكار يعرف من يبتدعها سلفاً، بأن هناك من سيرفضها. والهدف خلق حاجز سياسي أمام النزول للبرلمان لممارسة الواجب الدستوري. هكذا تطغى السياسة، مهما كانت مكشوفة وخبيثة، على الدستور. من المحال الاعتقاد بأنّ إنهاء الشغور الرئاسي ممكنٌ بقرار داخلي. وحتى الجهة التي تمسك بالقرار اللبناني لأسباب خارجية، أي «حزب الله» لا تعرف متى يمكن الإفراج عنه. ولذلك تربط الأمر بما ستؤول إليه حرب غزّة، رغم قولها إن لا علاقة لهذا بتلك. هذا آخر ما أبلغته في الغرف المغلقة، وما تبلّغه الحلفاء لكي يبنوا على الشيء مقتضاه.