عاد الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الى بيروت بعد غياب طال أشهرا، بهدف إعادة تحريك الملف الرئاسي المجمّد. ونقل الى القيادات والمسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم امس الثلاثاء، وسيبلّغ الذين سيلتقيهم اليوم الأربعاء، ما حصده من المحادثات التي أجراها أخيراً خلال زياراتها الى كلّ من واشنطن والرياض والقاهرة والدوحة، الأمر الذي يجعله ليس موفداً رئاسياً فرنسياً فحسب، بل “متحدّثاً باسم اللجنة الخماسية”، لا سيما بعد التنسيق الحاصل بين الأميركي والفرنسي، وهذا الأخير والدول الأخرى، وإن كان البعض لديه مآخذ على هذه التسمية، كونه ينطلق ممّا طرحه بيان “الخماسية” الأخير، وما تنصّ عليه مبادرة تكتّل “الاعتدال الوطني” التي تدعمها “الخماسية” بكلّ بنودها.
زيارة لودريان التي تصبّ في إطار تشجيع اللبنانيين على التشاور في فترة محدّدة، ومن ثمّ الذهاب الى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس الجمهورية في جلسات مفتوحة ودورات متتالية، تجدها مصادر سياسية مطّلعة أنّها “محاولة متجدّدة لإخراج الملف الرئاسي من عنق الزجاجة”، سيما أنّ “الفرصة مؤاتية حالياً للانتخاب”. أمّا طرح عقد حوار لبناني- لبناني خارج لبنان أو في فرنسا، فقد سقط قبل عرضه بشكل رسمي على القوى والأحزاب السياسية، نظراً لرفض عدد منها اللجوء الى الخارج من أجل التحاور فيما بينها. فلودريان سبق وأن دعا اللبنانيين الى مساعدة أنفسهم لكي تساعدهم دول “الخماسية”، وهم باتوا مقتنعين بضرورة هذا الأمر من دون الحاجة الى الانتقال الى أي دولة خارجية.
ولكن هل هذا يعني أنّ جميع الكتل النيابية والأحزاب السياسية موافقة على المشاركة في اللقاء التشاوري في مجلس النوّاب المطروح، من قبل لودريان و “الخماسية” ومبادرة “الاعتدال” الرئاسية؟ تجيب المصادر بأنّ المواقف لم تتبدّل في مسألة الذهاب الى التشاور أو عدمه، مع رفض تسمية هذا اللقاء بالحوار إنّما بالتشاور، لا سيما من قبل القوى المسيحية المعارضة لفكرة تغييب رئيس الجمهورية، أو جعل التشاور عرفاً أمام كلّ استحقاق رئاسي. فانتخاب رئيس مجلس النوّاب يحصل في مجلس النوّاب من دون أي حوار مسبق، كذلك فإنّ تسمية رئيس الحكومة تحصل من خلال مشاورات نيابية غير ملزمة من قبل رئيس الجمهورية. ولهذا فإنّ اعتماد أي آلية جديدة من شأنها المسّ بصلاحيات رئيس الجمهورية، ما يجعل “القوّات” و “الكتائب”، و “التيّار الوطني الحرّ” (الذي يُظهر ليونة أكثر أخيراً في ما يتعلّق بالتشاور)، ترفض أي حوار يسبق انتخاب رئيس الجمهورية، من باب الحرص على موقع الرئيس المسيحي.
ويأتي الموفد الفرنسي، على ما ذكّرت المصادر، بعد حصوله سابقاً على إجابات الكتل النيابية عن الأسئلة التي طرحها عليها حول مواصفات رئيس الجمهورية المقبل وبرنامجه الرئاسي، أكان كتابة أو شفهياً، والتي نقلها الى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجرت مناقشتها خلال زياراته الى دول “الخماسية”. ومن المتوقّع أن يُبلّغ لودريان ما جرى استنتاجه من هذه الردود، ويشدّد على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية وفق الصيغة التي تطرحها المبادرة الرئاسية القائمة، كون لبنان يحتاج الى من يمثّله في الخارج، والى رئيس يجلس الى طاولة المفاوضات خلال التسوية المرتقبة. كما سيدعو القوى والكتل النيابية الى الفصل بين حرب غزّة والجبهة الجنوبية والملف الرئاسي الملحّ، وإلاّ فإنّ الفراغ الرئاسي سيطول، وتطول معه مسألة عدم انتظام المؤسسات وتحقيق الإصلاحات وحلّ الأزمات المالية والاقتصادية وأزمة النزوح السوري والحدود البريّة وسواها.
ويحاول الفرنسي من خلال وجود لودريان في لبنان، التأكيد مجدّداً على دور فرنسا كلاعب إقليمي مهم على الساحة اللبنانية، لن يتخلّى عن لبنان، وفق المصادر نفسها، وإن كان الداخل لا يعوّل كثيراً على دوره وحده في التوصّل الى انتخاب الرئيس. وعن التوافق بين ما سيطرحه، ومبادرة تكتّل “الاعتدال”، فإنّ الموفد الفرنسي الذي يلتقي نوّاب هذا التكتّل على مائدة الغداء اليوم الاربعاء في قصر الصنوبر، سيسمع منه ردود الأفعال الداخلية على مبادرته الرئاسية. فرئيس مجلس النوّاب نبيه برّي يؤيّد النقاط العشر التي تقوم عليها المبادرة، ويشجّع على تنفيذ بنودها، كما سيضعه في تفاصيل من يؤيّدها بشكل كامل، ومن لديه ملاحظات على بعض بنودها. وسيؤكّد للودريان على أنّ البندين الخلافيين لا يزالان على حالهما، رغم سعي نوّاب التكتّل لإيجاد حلّ لهما، وتعويلهم بالتالي على التكامل مع مساعي “اللجنة الخماسية” لتذليل هاتين العقبتين، وهما تتمثّلان، كما بات معلوماً، بمن يدعو الى اللقاء التشاوري، الأمانة العامّة لمجلس النوّاب أم تكتّل “الاعتدال”، ومَن يرأس هذا اللقاء، برّي أم شخص آخر؟!
ولفتت المصادر السياسية الى أن نوّاب “الاعتدال” سيؤكّدون للودريان الذي يطرح خيار “الاسم الثالث” من دون الخوض في الاسماء، على أنّ مبادرتهم تتلاقى مع مساعي “الخماسية”، وأنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس الجمهورية في أسرع وقت ممكن. ويؤكّدون بالتالي على أنّ جوهر هذه المبادرة قائم على ثلاث نقاط أساسية هي:
1- إعطاء الأهمية لما تشهده المنطقة من توافقات تصبّ في إطار التسوية الإقليمية، والأخذ بالاعتبار السباق الجاري حالياً بين مساعي الهدنة واستمرار الحرب في غزّة لوقت طويل بعد. فثمّة تخوّف كبير من تصاعد وتيرة الحرب في الجنوب، في حال عدم وقف إطلاق النار في غزّة.
2- التعويل على القمة الأميركية- الفرنسية التي ستُعقد في باريس في 6 حزيران المقبل، على هامش الاحتفالات السنوية بالذكرى الثمانين لإنزال الحلفاء في النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية (1944)، والحوار الفرنسي- الإيراني في طهران، اللذين يسبقان الانتخابات الرئاسية الأميركية. فالملف الرئاسي اللبناني سيكون حاضراً على طاولة كلّ منهما، ولا بدّ من الاستفادة من هذه الفرصة السانحة للتوافق والانتخاب.
3- التحديات التي يواجهها لبنان جرّاء المواجهات العسكرية عند الجبهة الجنوبية التي تُسمّى “جبهة الإسناد أو الإشغال”، وأزمة النزوح السوري المتفاقمة التي تتطلّب انتظام المؤسسات لتأمين العودة الآمنة لجميع النازحين السوريين الى بلادهم.
وبرأيهم، أنّه من شأن هذه النقاط تشجيع القيادات والكتل النيابية على تخطّي العقبتين اللتين تحولان دون عقد اللقاء التشاوري، الذي سيستتبعه الذهاب الى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس الجمهورية في جلسات مفتوحة ودورات متتالية من خلال التنافس بين مرشحين أو أكثر، وليفز منهم من يحصل على أصوات الأغلبية النيابية.