IMLebanon

بعد الاستحقاق والجنوب… الاشتباك بين المرجعيات

 

عضّ الأصابع مستمر: لا الكتل المسيحية ستسمح بانتخاب فرنجية، ولا الثنائي الشيعي وحلفاؤه سيسمحون بانتخاب سواه

 

في الآونة الأخيرة بدا أن الاستقرار أخذ يحوز حصته من الاضطراب الناشب في الداخل بأبعاد سياسية تارة، وطائفية طوراً، وسط اهتراء آلة الحكم برمّتها. لم يعد انتخاب الرئيس المعضلة الأساسية بعدما تقدّمت عليه جبهة الجنوب. كذلك حدة السجالات الدائرة لم يطفئ جذوتها التحرك الفاتيكاني الأخير. ما رافق زيارة أمين سر الكرسي الرسولي الكاردينال بييترو بارولين ونجم عن قطيعة شيعية لاجتماع بكركي، أعطى إشارة سلبية إضافية مكمّلة للاستحقاق الرئاسي، هي أن الانقسام يدور حالياً من حول المرجعيتين المارونية والشيعية حصراً، بوجيهيْهما الديني والدنيوي. كلتاهما متناقضتان في الموقف مما يحدث في الجنوب انخراطاً في حرب غزة، وفي مقاربة انتخاب رئيس للجمهورية. ليست الجلسات الاثنتا عشرة لانتخاب الرئيس عامي 2022 و2023 إلا الدليل الساطع على عضّ الأصابع: لأن الكتل المسيحية بعد رفضها ترشّح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية منعت انتخابه، عطّل الثنائي الشيعي وحلفاؤه كل جلسة لا تفضي إلى وصول مرشحهم إلى قصر بعبدا. من دون أن يكون وحيداً، أضحى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في صدارة المواجهة محمّلاً حزب الله مسؤوليتي توريط لبنان في حرب غزة ومحاولته فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية. كلتا التهمتين يتمسك بهما الحزب ويعدّهما أولويتين له في مرحلة المواجهة الراهنة سواء بالإصرار سياسياً على انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية، أو عقيدياً بالصدام مع إسرائيل دفاعاً عن غزة. ما حدث أخيراً في خلال زيارة الزائر البابوي أن دخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى طرفاً في الخلاف الناشب سياسياً في الأصل بين بكركي والأحزاب المسيحية المعارضة وبين حزب الله. ترتّبت على ذلك ردود فعل ضاعفت في الانقسام الداخلي. إلا أنها كرّست في المقابل المرجعيتين المارونية والشيعية وجهاً لوجه. في أبسط الاستنتاجات أن الوقت سيطول قبل الخروج من المأزق المزدوج:

1 ـ رغم تأكيد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في الأول من حزيران فصل ما يجري في الجنوب والمواجهة مع إسرائيل عن الاستحقاق الرئاسي بدعوى أن الخلاف على انتخاب الرئيس سابق لحرب غزة بأقل من سنة، وهو ناجم عن انقسام الأفرقاء اللبنانيين على هوية الرئيس المقبل ومواصفاته، على أن الفصل وهمي. يتقاطع طرفا النزاع، الثنائي الشيعي والأحزاب المسيحية المعارضة، على أن الربط حقيقي وواقعي. مع أن الثنائي الشيعي لم يفصح عن ترشيحه العلني لفرنجية إلا في آذار 2023، أي بعد خمسة أشهر من اندلاع حرب غزة، في قرارة قيادتيْ حركة أمل وحزب الله أنه هو المرشح المكتوم لهما منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. إلا أن التوقيت اللاحق لإعلان الترشيح أوجد الذريعة القائلة بأنه وحده الضامن الذي يطمئن إليه حزب الله ويثق به دونما سواه من المرشحين، فتشبّث به. تبعاً لذلك صوّت هو وحلفاؤه له للمرة الأولى في جلسة 14 حزيران 2023، وهي بدورها الأولى والوحيدة منذ إعلان الترشيح، قبل أقل من أربعة أشهر من حرب «طوفان الأقصى» تعبيراً عن أن الخلاف على الرئيس محلي، لا يمت بصلة إلى أي دافع إقليمي. الذريعة نفسها يستنتجها الفريق المسيحي المناوئ لفرنجية بالقول إن الربط حتمي وواقعي بما يفضي إلى أن يكون انتخاب فرنجية هو التعويض الذي يرومه حزب الله في نهاية المطاف لإطفاء جبهة الجبهة وطمأنة سكان المستوطنات إلى عودتهم.

استعجال هوكشتين مهمته استباقٌ لاحتمال تنحّيه من منصبه بخسارة بايدن الولاية الثانية

 

2 ـ يتقاطع فريقا الانقسام أيضاً على خلاصة متشابهة إن لم تكن متطابقة، هي أن حزب الله دفع في الأشهر المنصرمة منذ 8 تشرين الأول ولا يزال فاتورة الحرب مع إسرائيل مع كل الأثمان التي ترتبت عليها على أرض الجنوب وأهاليه كما على قادته وبنيته وآلته العسكرية، ما يؤهّله لانتزاع مكاسب موازية لا تقتصر على اسم الرئيس ـ وهو ليس الأثمن في كل حال ـ بل على المرحلة التي سترافق عهده على مستوى إدارة الحكم. لكن في الأصل موقع الحزب في معادلة النظام برمّته وليس في توزّع حصص السلطة فحسب. ليس أدل على ذلك، رغم الزيارات المتوالية وإخفاقاتها الحالية للموفد الأميركي الخاص عاموس هوكشتين، تيقُن حزب الله أنه في مرحلة غير مسبوقة في تاريخ العلاقة السوداء بينه وبين الأميركيين منذ عام 1983: يفاوضه هوكشتين من طريق رئيس البرلمان نبيه برّي. ما لا يكتمه الحزب ولا برّي أنهما يبصران فيه محاوراً إسرائيلياً أكثر منه وسيطاً أميركياً، أقل بكثير مما رافق بعض المحطات الأخيرة في إدارته إتمام ترسيم الحدود البحرية اللبنانية ـ الإسرائيلية. مع ذلك يعتقد الحزب أن الرجل هو المفاوض الجدي المُعوَّل عليه في حقبة ما بعد انتهاء حرب غزة لاستعادة جانبي الخط الأزرق الهدوء وتطبيق القرار 1701، في ضوء نجاح تجربة الترسيم أولاً، لكن الأهم في ما يرافق التصعيد المحموم في الجنوب حالياً تحييده الحقول النفطية والبحر عن خطوط النار. يوافق هوكشتين حزب الله على أن لا وقف للنار في الجنوب قبل وقف النار في غزة، ويوافقه على أن الترتيبات الأمنية اللاحقة لا تبصر النور إلا في ضوء حقائق ما سينجم عن وقف النار في غزة.

مغزى استعجال هوكشتين إنجاز مهمته استباق الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف المقبل. خسارة الرئيس جون بايدن الحصول على ولاية ثانية ستفضي حكماً إلى تنحي موفده الخاص عن مهمته وسقوطه بسقوط الإدارة الديموقراطية.