رغم مرارة الظروف التي نعيشها فإن دعوة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا اللبنانيين لانتخاب رئيس للجمهورية في أقرب فرصة يعيد إلينا الأمل بلبنان ومستقبله، بل انّ الدعوة كانت واضحة الأسباب وهي رغبتهما بالتعامل مع رئيس للجمهورية وحكومة كاملة الأوصاف، وليس مع حكومة تصريف أعمال.
لقد اقتربت السنة الثانية للشغور الرئاسي من نهايتها ونحن ما زلنا من دون رئيس للجمهورية، وآخر مرة عقدت جلسة برلمانية لانتخاب رئيس للجمهورية كانت منذ ما يزيد عن سنة وثلاثة أشهر. وقد توقف الرئيس نبيه بري عن توجيه الدعوات لعقد الجلسات بسبب تمسكه بضرورة إجراء حوار أو تشاور برئاسته للاتفاق على رئيس للجمهورية يكون توافقيا، ورفض بعض النواب التجاوب مع دعوته وخاصة القوات اللبنانية مما أفشل هذه الدعوة. ولست هنا لأبرّر صحة هذا الموقف أو خطأه ولكن النتيجة أن لبنان هو الذي كان يدفع الثمن، فلا جلسات ولا رئيس.
وحلّت علينا الحرب التدميرية التي شنّتها وتشنّها إسرائيل على لبنان. ولقد أظهرت هذه الحرب الوحشية وحدة اللبنانيين في أحلى صورها وتجلّت هذه الظاهرة في الإجماع على إدانة هذا العدوان و التضامن مع المستهدفين في القصف الإسرائيلي حيث فتحوا لهم منازلهم بصرف النظر عن الاختلافات السياسية، وأصبح همّ الجميع وقف العدوان الإسرائيلي، وبالتالي طويت أو كادت أن تطوى صفحة انتخاب رئيس للجمهورية، إلى ان وصلتنا الرسائل الواضحة أو المشفّرة والتي تطالبنا بانتخاب رئيس، والرسائل موجّهة للجهة المعنية وتحديدا الرئيس نبيه برّي.
ولم يجد الرئيس برّي صعوبة في قبول هذا الطلب، فناقش الأمر مع بعض المقرّبين وخاصة صديقه نائب رئيس مجلس النواب الأستاذ إلياس بو صعب الذي نقل للبنانيين بعد الاجتماع معه بما يشبه البشرى، بأنّ الرئيس نبيه بري لم يعد متمسّكا بضرورة الحوار أو التشاور قبل تحديد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، وهو على استعداد لأن يدعو مجلس النواب لانتخاب رئيس توافقي لا يشكّل تحدّيا لأحد ومشدّدا على أهمية ان يتنازل الجميع عن مطالبهم كما فعل الرئيس برّي، بسبب الظروف التي يمرُّ بها لبنان. ولكن نائب الرئيس ربط انتخاب الرئيس بشرط غير دستوري وهو «أنّ الرئيس الذي يجب أن ينتخب يجب أن يحصل على أكثرية ثلثي أعضاء مجلس النواب على الأقل أي لا يقل عن 86 صوتا حتى تنطبق عليه صفة الرئيس التوافقي» معلنا بصراحة أن لا رئيس بـ65 صوتا لأنه لن يكون رئيسا توافقيا. وتلاه في اليوم التالي رئيس حكومة تصريف الأعمال الرئيس نجيب ميقاتي بعد حمله نفس البشرى عن الرئيس بري ومعلنا نفس الشروط مؤكدا أن الرئيس بري سيدعو مجلس النواب للانعقاد فور صدور قرار وقف النار.
ويبدو أن الرئيس برّي كلف الرئيس نجيب ميقاتي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق الأستاذ وليد جنبلاط بعد اجتماعهم بالاتصال بالأفرقاء المسيحيين لشرح ما دار في الاجتماع وللتباحث معهم عن الرئيس الذي لا يشكّل تحدّيا لأحد، ويكون رئيسا توافقيا ويمكن أن يؤمّن إجماعا أوشبه إجماع عليه، وقد فسّر البعض أن هذا المسعى يشكّل تخلّيا من الرئيس بري عن مرشحه بل مرشح الثنائي الشيعي الوزير السابق سليمان فرنجية، ولكن الرئيس بري أوضح لأحد الصحفيين عندما سأله عن ذلك بقوله: من هو المرشح الذي يحظى بأغلبية الثلثين حتى أتنازل عن فرنجية؟
ومن الملاحظ أنّ موقف كل من الرئيس نجيب ميقاتي ونائب رئيس مجلس النواب يتطابق مع الموقف الذي كان ينتهجه الرئيس بري عند عقد جلسات انتخاب رئيس للجمهورية: دورة واحدة لانتخاب الرئيس بثلثي الأصوات ثم يطير النصاب وترفع الجلسة أي عدم فسح المجال لإجراء الدورة الثانية ليصير الانتخاب بالأكثرية المطلقة، كما نصت المادة 49 من الدستور اللبناني، ولهذا فيمكن اعتبار أن موقفيهما ترجمة لرغبة الرئيس نبيه برّي.
وبالتالي فإن الرئيس بري رمى الطابة في ملعب الفريق المسيحي ليبحثوا عن الرئيس التوافقي، حتى يدعو لعقد جلسة انتخابية، وهو يعلم جيدا أن هذا الأمر مستحيل لأن الأفرقاء المسيحيين ليسوا موحّدين وبالتالي يبعد عنه تهمة عرقلة انتخاب الرئيس.
ولكن لنعد إلى ما طرحه كل من رئس حكومة تصريف الأعمال ونائب رئيس مجلس النواب حول رفضهم انتخاب رئيس للجمهورية بأكثرية 65 صوتا، ويمكنني أن أبدي ما يلي:
1- ان هذا الموقف يُعدّ انتهاكا للدستور اللبناني الذي نص في المادة 49 الفقرة الثانية على ما يلي: «ینتخب رئیس الجمهوریة بالاقتراع السري بغالبیة الثلثین من مجلس النواب في الدورة الأولى، ویكتفي بالغالبیة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي». فهل يستطيع أصحاب الدولة رئيس الحكومة ونائب رئيس مجلس النواب أن يفسرا لنا هذا الموقف، فلم يكن تبريرهما مقنعا من أنّ الرئيس بالأغلبية المطلقة ليس توافقيا، إلّا إذا كان المقصود عدم عقد جلسات مجلس النواب بسبب عدم التوافق.
2- ألا يعلمان أن الرئيس سليمان فرنجية (جد المرشح الحالي) قد فاز بـ50 صوتا عندما كان مجلس النواب مؤلفا من 99 نائبا وأن الرئيس السابق ميشال عون قد فاز بـ65 صوتا، فلماذا يجوز انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة في حالة ولا يجوز في حالة أخرى مماثلة، وأذا أصرّ نائب رئيس مجلس النواب على موقفه فما عليه إلّا أن يطلب تعديل الدستور في مجلس النواب وشطب عبارة «ویكتفي بالغالبیة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي».
3- إنّ مثل هذا الموقف يمكن أن يؤدي إلى شلل العمل الديموقراطي في نظامنا البرلماني وبالتالي إلى دكتاتورية الأقلية. فما الذي يمنع من أن يتوافق أكثرية مجلس النوب وأقصد 65 نائبا على انتخاب رئيس للجمهورية وهذا ما أشار إليه الدستور اللبناني عند عدم توفر أكثرية الثلثين. فالرئيس عندما يقبض على السلطة يقسم يمين الولاء للبنان وطبقا للفقرة الأولى من المادة 49 من الدستور: «رئیس الجمهوریة هو رئیس الدولة ورمز وحدة الوطن. یسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضیه وفقاً لأحكام الدستور. یرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء». وبالتالي لا يمكن للرئيس إلّا أن يكون فوق أي انقسام وهو من يوحد ولا يفرق بين اللبنانيين إلى أي فريق انتموا. أما بالنسبة لخطورة دكتاتورية الأقلية (0LIGARCHIE) قد أشارت جميع الدراسات الدستورية إلى ما يمكن أن تلحقه من أضرار بالدول التي تتحكم بها، أقلّه إلغاء النظام الديموقراطي، وبالتالي علينا أن نحمي ديموقراطيتنا بعدم السماح بدكتاتورية الأقلية، والعودة إلى روح الدستور وتطبيق المبدأ الدستوري: في النظام الديموقراطي الأكثرية تحكم والأقلية تعارض. آملين أن ينعقد مجلس النواب قريبا لانتخاب رئيس لا يشكل تحديا لأحد سواء بـ86 صوتا أو 65 صوتا.