عندما استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المرشح سليمان فرنجية سأله عن مقاربته لملفات ما بعد الرئاسة، ومن بينها ملفا حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. لم يظهر فرنجية ممانعة في أصل البحث، ولا اتّخذ موقفاً سلبياً من طروحات ماكرون. لكنه أشار، بما خصّ قائد الجيش العماد جوزيف عون، إلى أنه لن يتعرّض له، وسيترك الأمور تسير وفق القانون، وعندما يحال إلى التقاعد يختار مجلس الوزراء خلفاً له. أما في ملف الحاكم، فلم يعلّق سلباً على ذكر الفرنسيين اسم الوزير السابق جهاد أزعور لمنصب الحاكمية.
بعد فترة، تحدّث فرنجية علناً عن أمور تتعلق بمرحلة ما بعد الرئاسة. وكانت لافتة إشارته إلى أن الثلث المعطل يجب أن يبقى في أي حكومة، وأن ملفات التعيينات الأساسية ستكون من مهمة مجلس الوزراء الجديد. وهو، طبعاً، لم يتطرق إلى اسم أيّ من المرشحين لتولي أيّ من هذه المناصب، بما في ذلك من سيكون رئيساً للحكومة، وإن كان على علم بأن التسوية التي ستحمله إلى القصر الجمهوري، ستحمل نواف سلام إلى السراي الكبير.
ما بقي بعيداً عن التداول الإعلامي، يتصل بالنقاش حول «السلة الإجمالية»، أي كل ما يخص الصفقة التي يفترض أن يكون عنوانها الأول انتخاب فرنجية رئيساً. صحيح أن تطورات كثيرة حصلت، لكنّ التسوية لا تزال على الطاولة. وبعد تقاطع القوى المعارضة لفرنجية على اسم أزعور مرشحاً للرئاسة، بات مؤكداً أن الأخير لم يعد مرشحاً لمنصب حاكم مصرف لبنان. فلا هو شخصياً يريد ذلك، ولا الآخرون بقوا على الحماسة السابقة نفسها لترشيحه، بعدما قبل أن يكون واجهة المعركة في وجه فرنجية. وهو خيار له تأثيره على مواقف كثيرين، منهم فرنسا نفسها، كما القوى الداعمة لفرنجية.
تصورات مرحلة ما بعد الرئاسة كانت في صلب المناقشات غير المعلنة الجارية بين «الكبار» محلياً وخارجياً. الأميركيون، مثلاً، لا يعيرون الملف الرئاسي اهتماماً خاصاً حتى الآن، وحتى دعمهم لوصول قائد الجيش إلى القصر لا يترافق مع معركة كسر عظم، بل يبدو أن التفويض الممنوح لفرنسا لا يزال قائماً، على أن يُترك لأطراف أخرى كقطر القيام بالشغب المناسب وفي الوقت المناسب، مدعومة بموقف مصري أقرب إلى قائد الجيش، وحياد سعودي من الملف برمّته. لكنّ الأميركيين، ليسوا على الحياد إطلاقاً، خصوصاً في ما يتعلق بالنظام المالي في لبنان. لذلك يتصرفون وفق قاعدة أن حصتهم في أي تسوية ستكون حكماً في النظام المالي وترتيباته وأشخاصه. وحتى لو انتُخب رئيس للجمهورية يقبل به حزب الله لن يقدموا على قلب الطاولة، إلا أنهم لن يتسامحوا حيال مكوّنات النظام المالي. ولذلك، يتصرفون على أساس أن منصب حاكم مصرف لبنان يجب أن يبقى تحت رعايتهم، وأن لهم حق الفيتو ضد أي مرشح لا يناسبهم، وهم أبدوا ارتياحاً عندما استقبلوا نائب الحاكم الأول وسيم منصوري في واشنطن أخيراً لسؤالهم عن موقفهم منه في حال توليه منصب الحاكم بعد انتهاء ولاية رياض سلامة نهاية الشهر الجاري. وقد عاد منصوري بعدم ممانعة أميركية، ولمس أن ملف مصرف لبنان، كما بقية الملفات المالية والنقدية، متروكة لموافقتهم النهائية. لكنّ الأميركيين، على عكس بطء ردات فعلهم إزاء ملف الرئاسة، يستعجلون ملء الشغور في منصب الحاكم. وهم أعطوا إشارات لأكثر من طرف، بمن في ذلك القوى المسيحية، بعدم معارضتهم «تعيين الضرورة» من قبل حكومة تصريف الأعمال، لأنهم يريدون أن يكون الحاكم الجديد من حصتهم.
لكن، لماذا لم يحصل ذلك؟
الواضح أن الأميركيين حاولوا الاحتيال على الوقائع اللبنانية الجديدة. وفعل مثلهم من أيّد تعيين حاكم جديد. وهؤلاء جميعاً يعرفون أن المعركة على رئاسة الجمهورية لم تعد مقتصرة على اسم الرئيس فقط، بل على سلة متكاملة تشمل كل المواقع، تبدأ بالحكومة وحاكم مصرف لبنان وتصل إلى قائد الجيش ورئيس مجلس القضاء الأعلى وغيرها من المناصب. حماسة الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي لتعيين بديل لسلامة وتعيين رئيس لأركان الجيش، دفعت البعض إلى القول إنهما يريدان تحصيل نتائج قبل انتهاء المعركة، وفتح الباب أمام تعيين حاكم جديد بمعزل عن هوية الرئيس الجديد أو الحكومة الجديدة، والتوافق عليه من دون الحاجة إلى موافقة طرف أساسي هو التيار الوطني الحر. ويبدو أن بري وميقاتي فسّرا خطأ الخلافات القائمة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، واعتبرا أن الحزب لن يمانع خطوة كهذه، أو أنه لن يكون معارضاً لأي قرار يسهّل عمل قائد الجيش، ويسمح له بالتحضر لخلع البزة العسكرية لانتخابه رئيساً.
عملياً، نسي كثيرون أن المفاوضات بين حزب الله والنائب جبران باسيل حول الرئاسة استندت في جانب أساسي منها إلى برنامج عمل الحكومة والتعيينات في المواقع الأساسية، وعندما عرض السيد حسن نصرالله على باسيل ضمانات، لم يكن يطمئنه إلى أن أحداً لن يقترب منه، بل كان يعرض عليه أن يكون شريكاً مع فرنجية في الحكم. وهذه الشراكة تعني وجود التيار في قلب العمل الحكومي وفي قلب كل البرامج والملفات، بما في ذلك مصرف لبنان وقيادة الجيش.
من جهة أخرى، ليس منطقياً أن تخوض معركة إيصال رئيس، وتجرّده من الأسلحة مسبقاً، وتفرض عليه حاكماً لمصرف لبنان ومسؤولين آخرين في مواقع أساسية في الدولة، والأمر نفسه ينسحب على أي رئيس جديد للحكومة بعد الانتخابات الرئاسية. وهذا يعني أن حزب الله يقول لمن يهمه الأمر، داخلياً وخارجياً، بأنه ممنوع تجزئة الصفقة، وطالما لم يتم الاتفاق على اسم الرئيس المقبل، لن يكون سهلاً أو مقبولاً تسمية آخرين في مواقع أساسية. وحجة حزب الله هنا، أن القانون يتيح علاجات ولو مجتزأة، لتسيير المرافق، إلى حين تعيين الأصيل في الموقع الشاغر.
خلاصة الأمر أنه يصعب توقّع تغييرات كبيرة في مواقع حساسة قبل الانتهاء من ملف رئاسة الجمهورية، والأهم هو أن الصفقة المشار إليها بتسوية أو أي اسم آخر، تعني أن هذه المناصب لم تعد حكراً على جهة بعينها، لتختارها مباشرة أو من خلف ستار، بل إن الجميع صار معنياً بأن يكون له رأيه الفعّال في المقترحات، وبالتالي، فإن جهة مثل حزب الله، لم تعد تقبل بألا يكون لها رأيها في اختيار شخصيات مركزية كبيرة، مثل قائد الجيش أو حاكم مصرف لبنان أو رئيس مجلس القضاء الأعلى أو غيره، وفي حال جوبه الحزب بحجة أن الطوائف ومرجعياتها السياسية في الحكم هي من تختار المرشحين للمناصب، فالحزب يملك استراتيجية جديدة، بضرورة الاتفاق لمرة أخيرة على قانون للتعيينات الإدارية في كل مواقع الدولة، بحيث تصبح المعايير غير محصورة فقط بالرعاية السياسية لهذا المرشح أو ذاك. وهو أمر منطقي حتى للقوى المسيحية التي عانت من «سرقة حقوقها» في زمن سابق. وبعدما استردّت كلّ حقوقها، في التمثيل السياسي رئاسياً ووزارياً ونيابياً وإدارياً، لم تعد لديها حجة لرفض اعتماد آلية جديدة للتعيينات… ولكم في آلية محمد فنيش مثلٌ أيها الإصلاحيون!.