الجلسة 35 لانتخاب الرئيس الاثنين 8 شباط هي الرابعة منذ اجتماع باريس في 17 تشرين الثاني، والأولى منذ اجتماع معراب في 18 كانون الثاني. لا ذاك استعجل الانتخاب ولا هذا. ومن غير المؤكد قبل انقضاء السنة الثانية أن الاستحقاق واقع
أوحى اجتماع باريس بانتخاب حتمي لرئيس الجمهورية بعدما اختار الرئيس سعد الحريري ــ من دون أن يرشح علناً ورسمياً ــ النائب سليمان فرنجية، كما لو أن تزكية زعيم السنّة مرشحاً من قوى 8 آذار كافية لحمل الأفرقاء الآخرين على الاقتراع له.
بدوره، اجتماع معراب أوحى بأن انضمام رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الى ترشيح الرئيس ميشال عون، ما داما يمثلان الغالبية المسيحية المرجحة، يفضي حكماً الى قصر بعبدا، كما لو أنهما أو المسيحيين يأتون بالرئيس ويفرضونه على الآخرين. لا ذاك صح، ولا هذا صح. هكذا أضحى اجتماعا باريس ومعراب حدثين عابرين، يمسيان تدريجاً يوماً بعد آخر ــ في الاستحقاق الرئاسي بالذات ــ تفصيلاً إضافياً، وربما ثانوياً، لا يصنع رئيساً.
على أن سرّ الاستحقاق في مكان آخر. ما لم يرفع تيار المستقبل الفيتو السنّي عن عون، لن ينتخب. وما لم يرفع حزب الله الفيتو الشيعي عن فرنجية لن يُنتخب. وما لم يتفق الفيتوان النافذان لن يكون ثمة رئيس. بذلك يصبح العدّ واحتساب الكتل والأصوات عديمَي الجدوى: لا يذهب فرنجية الى جلسة ــ وإن لانتخابه ــ لا يحضرها حزب الله، ولا كذلك النائب وليد جنبلاط. ولا يذهب عون الى جلسة انتخابه في غياب الغالبية السنّية. على نحو كهذا، يصبح مأزق الشغور مقلوباً على رأسه: لم تعد أزمة مرشح ذي حيثية يمثل طائفته ــ وفي الصدارة اثنان لا تشوب تمثيلهما السياسي والشعبي شائبة ــ بل أزمة ناخب هو الذي أحال ثلثي مجلس النواب مشطوراً بين الصوت السنّي والصوت الشيعي.
حتى الجلسة 31 في 11 تشرين الثاني، عشية اجتماع باريس، لم تختلف أولاها في 23 نيسان 2014 عن آخرها: فريقا 8 و14 آذار يتنافسان على مرشحيهما عون وجعجع، على أن كلاً منهما مرشح مشروع سياسي يتداخل المحلي فيه بالإقليمي. كلاهما يرفض انتخاب مرشح الفريق الآخر، من دون أن يكون في وسعه، بالتحالفات والنصاب، فرض انتخاب مرشحه. فعبرت الجلسات المتتالية أرقاماً بعد أخرى. ليس الأمر الآن أحسن حالاً. لولا اجتماع باريس لما استُعجل اجتماع معراب، رغم أن طرفيه المتحاورين: التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، باشرا لأكثر من سنة خلت حواراً مستفيضاً توطئة للمصالحة، أخفق في مقاربة الاستحقاق، وصرّح قطباهما المرشحان المتنافسان مراراً بأنهما يختلفان على هذا البند.
مع ذلك، ضاعف اجتماعا باريس ومعراب من أسباب استمرار الشغور. لم يكتفيا بحصر الاستحقاق بمرشح من قوى 8 آذار عندما صالح الحريري وجعجع خصميهما، بل تسبّبا في نقل الأحاديث والأوهام والهواجس المكبوتة من الغرف المغلقة الى الطبقات العليا، ومنها الى السطوح. فجأة راح الأفرقاء المعنيون ينشرون الغسيل الوسخ على حباله: عون وفرنجية، جعجع والحريري، المردة والقوات اللبنانية، القوات اللبنانية وحزب الكتائب، جنبلاط وحزب الله، من غير إغفال الغسيل السنّي ــ الشيعي المتروك أساساً على حبال أكثر من ملف محلي وإقليمي.
في موازاة كمّ كبير من الخلافات يحول دون انتخاب الرئيس، ويمدد في عمر الشغور، ثمة ملاحظات باتت لصيقة هذا المأزق:
1 ــ لا يرقد الاستحقاق الرئاسي اللبناني على سرير صراع إقليمي أو دولي يرتبط به مباشرة، يجعل نجدته مستعجلة وملحة، الآن أكثر من ذي قبل. لم يعنِ الترحيب الدبلوماسي الغربي خصوصاً في بيروت بترشيح فرنجية، والاهتمام الذي أبرزه سفراء عندما توافدوا على بنشعي في الأيام الأولى، كما على أفرقاء آخرين في قوى 8 و14 آذار ناصحين بالتقاط الفرصة، سوى اختبار يمكن اتسامه بالجدية، لكنه غير قاطع أو ملزم. في أحسن الأحوال، ليس ثمة ما يشبه الصراع الدولي والإقليمي الذي خبره لبنان عند التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004، ورفض المجتمع الدولي خيار دمشق، ما آل الى صدور القرار 1559 في اليوم التالي. أمل النشاط الدبلوماسي من مبادرة ترشيح فرنجية في إمرار الاستحقاق، بيد أنه لا ضغوط دولية اقترنت به كتلك التي ماثلت استحقاق 2004.
2 ــ خلافاً لباريس التي جارت اقتراح الحريري ترشيح فرنجية، ومن ثمّ ــ كهدف أصيل في المبادرة ــ وصول الرئيس السابق للحكومة الى السرايا، تحاذر واشنطن الخوض في ما يتعدى العناوين العريضة: انتخاب رئيس للجمهورية بلا إبطاء. قيل الكثير في سعي السفير السابق دافيد هيل إلى ترشيح فرنجية، من دون أن يتمكن من فعل المزيد، وهو إيصاله الى قصر بعبدا. على الأقل، لم يلمس المعنيون ضغوطاً أميركية ظاهرة على أحد أبرز الحلفاء اللبنانيين وهو رئيس حزب القوات اللبنانية الذي ذهب الى الوجهة الأكثر حدة واستفزازاً، على الأقل بالنسبة الى الأميركيين، بتسميته عون.
3 ــ لعل أبرز ما يعكس اهتمام الأميركيين بلبنان ــ الى تمسكهم باستقراره ــ توجيه رسائل تطمين الى الداخل الى سهرهم على الجيش والقطاع المصرفي. قبل أقل من شهرين، فوتحوا من مناوئين لفرنجية أبدوا قلقهم من خطورة انتخابه وانعكاس هذا الانتخاب على الاستقرار الداخلي، إذ يعزز الدور الأمني لحزب الله، كما على القطاع المصرفي. رد الأميركيون على محدثيهم اللبنانيين بأن الجيش والقطاع المصرفي هما الضامنان الفعليان للاستقرار في البلاد، وليس في وسع أي فريق محلي التعرض لهما أو النيل من دوريهما، مع تأكيد جازم بأن واشنطن تثابر على مراقبة هذين الضمانين. إلا أنها لا تشعر من انتخاب المرشح المشكو منه ما يعرضهما لخطر أو استهداف.