للأنظمة السياسية مساران: مسار نظري يجسّده الدستور وأحكامه في الأنظمة والقوانين، وآخر عملي يرتبط بالممارسة التي قد تصبح في بعض جوانبها أعرافاً ملازمة للدستور.
لم تنته حروب لبنان في 1990 بمؤتمر سلام بل بعملية عسكرية أدّت إلى إزاحة العماد عون ودخول الجيش السوري الأراضي اللبنانية كافة بغطاء دولي وإقليمي، وفي ظل انقسام داخلي حادّ. وجاءت وثيقة الوفاق الوطني بديلاً من مصالحة وطنية لم تحصل، وكان مرتقباً أن يأتي تنفيذها لاستعادة الوفاق الموعود، إلا أن لبنان دخل مرحلة الوصاية الكاملة وتمّ انتهاك الدستور وتهميش اتفاق الطائف.
وما لبث أن أخذ الاستهداف السياسي مداه، ولم يميّز بين مؤيدي الطائف ومعارضيه. الفارق كبير بين إهمال الدولة ومؤسساتها ومعها مصالح الناس، والاستهداف المبرمج الذي طال في تلك المرحلة القوى السياسية الأساسية في الوسط المسيحي.
محاولات الإبقاء على الأمر الواقع تواصلت حتى بعد انسحاب الجيش السوري، واستمر الوضع على حاله مع انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية في تسوية شبيهة بتسويات المرحلة السابقة، عكست «التعددية» الإقليمية آنذاك. اعتاد أهل الحل والربط في لبنان على هذا النمط واستفادوا منه الى أبعد الحدود وعلى المستويات كافة.
وجاء انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية والتحالفات التي رافقته من خارج السياق المألوف منذ عقود، كاشفاً المستور – المعلوم في حسابات البعض ورهاناتهم، فبات الانفصام قائماً بين ممارسات الحكم المعهودة والواقع الجديد. وهذا جليّ في مسار تأليف الحكومة ومحاورها المشتتة.
للرئاسة الأولى دور ملتبس في الدستور، الا ان الامر يختلف في الممارسة، خصوصاً عندما يكون الرئيس غير مقيد بتبعية من أي جهة أتت، فلا «فواتير» يجب دفعها إلا في حدود متطلّبات الحكم السليم. وهذا في صلب مهام «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، على ما جاء في الدستور.
محاور 8 و14 آذار لا تزال قائمة، إلا أنها منهكة وغير قابلة للصرف. العهد الرئاسي الجديد في صلب المعادلة الوطنية التي، وإن جمعت الأضداد، فهي تبقى تحت مظلة الدولة ورئيسها وبالتعاون المجدي مع رئيسَي الحكومة ومجلس النواب. فلا مكان لحالة شبيهة «بالترويكا» السابقة، بما هي من تناحر دائم ومناكفات لا تنتهي إلا بعد تدخل سلطة الوصاية. فالدولة تشقّ طريقها باتجاه بلوغ «سنّ الرشد» فيكون لقرارها الذاتي اعتبار، وإن اعترضتها عوائق لا بد منها في إدارة الشأن العام. اما الفصل في المسائل الخلافية فحدوده الدستور والنظام السياسي الديموقراطي على ضفتي الحكم والمعارضة.
لن تكون المرحلة الجديدة من دون صعوبات، وقد يرفضها البعض الى حد محاولة تعطيلها، إلا أنها تأتي في إطار محاور «بلدية» تعكس الواقع السياسي، كما هو بتعقيداته وتحالفاته، القديم منها والجديد. وهي مرحلة مكتملة العناصر والأطراف. فـ «حركة أمل» و «حزب الله» في تحالف استراتيجي، وهذا أمر طبيعي ومشروع. و «القوات اللبنانية» تنتمي إلى النسيج اللبناني وليست دخيلة عليه، ولها تحالفات متنوّعة، مثلما هي حال «التيار الوطني الحر» و «الحزب التقدمي الاشتراكي» و «حزب الكتائب» و «المردة» وسواهم. إنها خارطة المكوّنات السياسية على امتداد البلاد، وجميع أطرافها لبنانيون منذ أكثر من مئة سنة في أقل تقدير.
دخل لبنان مسار استعادة مقوّمات الدولة التي انطلقت بعد انتهاء الحرب في مطلع التسعينيات وجنحت باتجاهات شتى في ظروف عكست موازين قوى لا حدود فاصلة لها بين الداخل والخارج. وبعدما انتفت الحاجة إلى وظيفة لبنان الساحة أو جائزة الترضية لهذا الطرف أو ذاك، بات على اللبنانيين أن يتحمّلوا المسؤولية في انتظام مؤسسات الدولة وتحصين الوحدة الوطنية وتعزيز الاستقرار والازدهار. إنها فرصة متاحة لإعادة إعمار منتجة تصونها الإرادة اللبنانية، وإن تباينت التوجهات والأولويات.