IMLebanon

القصر الجمهوري: جناح الرئيس مقفر.. ونشاط عادي في الدوائر

اكتملت السنة الأولى من الشغور في سدّة الرئاسة الاولى.. والخشية تتزايد من أن يبدأ تعداد الأشهر والسنوات بدل تعداد أيام الفراغ الرئاسي، في ظل النظرية الشائعة انه من دون رئيس «الامور ماشية»، علما ان للرئاسة بعدين: مؤسساتي وطائفي.

هل يستطيع البلد الاستمرار من دون رئيس للجمهورية يكون رئيسا للمؤسسات؟ وهل يستطيع البلد تحمل غياب مشاركة المكون المسيحي الميثاقي الاساسي؟.

عدة تجارب مرّ بها لبنان في تاريخه الحديث، ابرزها تجربة الشغور بعد انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل. ثم تجربتا الشغور بعد انتهاء ولاية كل من الرئيس العماد اميل لحود والرئيس العماد ميشال سليمان، بحيث وضع نص في دستور الطائف يلحظ هذه الحالة عبر اناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء مجتمعا.

تختلف ظروف الفراغ في موقع الرئاسة الاولى بين عهود الرؤساء امين الجميل وإميل لحود وميشال سليمان، وان كان القاسم المشترك بين التجارب الثلاث «تغييب» رئيس الجمهورية، فالفراغ العام 1988 حصل قبل اتفاق الطائف، في حين حصل فراغ العام 2007 و2014 بعد تطبيق هذا الاتفاق.

الفراغ في دستور 1943

في عهد الرئيس الجميّل، وبعد تعذر انتخاب رئيس للجمهورية، استعمل رئيس الجمهورية الصلاحيات التي كانت له في تشكيل الحكومة بموجب مرسوم فاختار المجلس العسكري الذي كان مشكلا من 6 اعضاء مناصفة بين المسيحيين والمسلمين والذي كان يرأسه العماد ميشال عون بصفته قائدا للجيش.

وبصرف النظر عن الملابسات التي رافقت تشكيل حكومة عسكريين (وليست حكومة عسكرية، لان التوصيف يختلف بين الحكومتين) وردود الفعل عليها ولاسيما استمرار الحكومة التي كان يرأسها الرئيس سليم الحص وما نتج عن ذلك من «واقعين حكوميين»، فان البلاد عاشت تجربة قاسية امنيا وسياسيا شغلت الرأي العام في حينه عن مفاعيل الفراغ الرئاسي شكلا ومضمونا، لاسيما وان القصر الجمهوري لم يكن شاغرا او خاليا، لان العماد عون اقام في القصر وكان يعقد جلسات الحكومة في قاعة مجلس الوزراء، ودوائر الرئاسة بكافة مديرياتها عملت كدوائر رئاسة مجلس الوزراء في كل المواضيع المتصلة بعمل الحكومة، لان دوائر رئاسة الحكومة في مقر الرئاسة الثالثة في الصنائع (مقر وزارة الداخلية حاليا) ظلت تابعة للحكومة التي رأسها الرئيس الحص.

اذا عمليا كان الفراغ الرئاسي في الموقع وليس في المبنى، خلافا لما حصل بعد انتهاء عهدي الرئيسين لحود وسليمان حيث كان الفراغ في الشخص وفي المقر.

في ظل حكومة عون كان قصر بعبدا مثل خلية النحل، في بادئ الامر كانت كل النشاطات الرسمية منصبة فيه وكذلك العسكرية لان العماد عون احتفظ بقيادة الجيش، فكانت المسائل المتصلة بالجيش تتم في القصر وان كانت دوائر القصر الادارية غير معنية بها بطبيعة الحال ، لكن تصبح معنية عندما كان الامر يتطلب مراسيم او قرارات من وزير الدفاع الذي كان العماد عون ايضا . لكن الحياة اليومية المكثفة والامنة نسبيا، لم تستمر كذلك، اذ اضطرب الوضع الامني بعد اتخاذ حكومة العماد عون سلسلة قرارات تنظيمية منها استرداد سلطة الحكومة على المرافئ الشرعية واقفال غير الشرعي منها، وغيرها من الاجراءات فحصلت اول مواجهة بين الجيش و «القوات اللبنانية» ثم هدأت الامور، لتبدأ بعد فترة «حرب التحرير» التي اعلنها العماد عون ضد الوجود العسكري السوري في لبنان. وقد ادت تلك «الحرب» الى تدهور الوضع الامني وتعرض مواقع الجيش ومنها في محيط القصر للقصف وصارت الطريق اليه غير آمنة بشكل منتظم ودائم. كما توسع التدهور بعد المواجهة الثانية بين الجيش و «القوات اللبنانية» التي عُرفت بـ «حرب الالغاء».

في تلك الفترة تغيرت جزئيا «نوعية» زوار القصر، اذ تحول الى «بيت الشعب» كما سماه العماد عون في حينه، وكان يشهد يوميا مسيرات شعبية وتظاهرات واعتصامات في ساحته الداخلية وعلى طول الطرق المؤدية اليه، واختلط زوار القصر من الرسميين والعسكريين والديبلوماسيين والسياسيين بـ «الزوار الجدد» من طلاب مدارس وجامعات وشبان ونساء ورجال واطفال، اضافة الى «جيش» من المتطوعين كان يحضر الى القصر لمساعدة العاملين فيه، خصوصا ان العماد عون كان يتولى وزارات عدة الى جانب رئاسة الحكومة وقيادة الجيش.

تغيرت معالم القصر الجمهوري آنذاك من مبنى هادئ، الحركة فيه محدودة.. الى مبنى يعج بالناس والهتافات والشعارات واللافتات التي رفعت عند مداخله وباحاته الخارجية. ونظرا للظروف الامنية آنذاك، اضطر الحرس الجمهوري الى اعتماد اجراءات امنية خاصة ومشددة واضاف تحصينات خارج المبنى وداخله لاسيما في البهو الكبير الداخلي الذي يشكل عمليا سقف الطابق السفلي الذي اضطر العماد عون الى الانتقال اليه من حين الى آخر لاسيما عندما كان يشتد القصف على القصر او خلال استقباله زواره كي لا يتعرضوا للخطر وقد تم يومها «صبّ» كمية كبيرة من الباطون المسلح مع ارضية من الحديد لتأمين الحماية المطلوبة .

«عملية 13 تشرين الأول»

كان العمل في دوائر القصر منتظما على رغم الظروف القاسية، وكان حضور الموظفين يتم بانتظام، الا عندما يتعذر الانتقال على الطرق فكان العاملون في القصر من المدنيين ينامون في مكاتبهم او في قاعات للنوم استحدثت في الطابق السفلي للقصر. اما الذي كان مكتبه آمنا فكان ينام فيه فيتحول ليلا الى غرفة نوم وفي اليوم التالي الى مكتب للعمل.

خلال الاشهر الاخيرة التي سبقت احداث 13 تشرين الاول، كانت الاوضاع الامنية قد بلغت الذروة ولم يكن في الامكان الدخول والخروج بسهولة الى القصر. في 13 تشرين الاول اصيب مبنى القصر بالقصف الجوي الذي نفذته الطائرات السورية والحقت به دمارا كبيرا، كما شبت حرائق في مبنى الموظفين الملاصق لجناح رئيس الجمهورية واتت النار على كميات كبيرة من ارشيف الرئاسة. وظل الفراغ مقيما في قصر بعبدا حتى بعد انتخاب الرئيس الشهيد رينه معوض الذي لم ينتقل الى قصر بعبدا، وبعد استشهاده انتخب الرئيس الراحل الياس الهراوي فأعاد ترميم قصر بعبدا وتأهيله وانتقل اليه بعد اكثر من 3 سنوات من انتخابه ريثما انتهت ورش اصلاحه واعادة تأهيله.

لم يتمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس لحود الذي غادر القصر الجمهوري. كما أنه لم يتمكن من انتخاب رئيس خلفاً للرئيس ميشال سليمان.. وفي اليوم التالي بدأ الفراغ، لاسيما وان اتفاق الطائف لم يعطِ رئيس الجمهورية وحده صلاحية تشكيل حكومة كما حصل مع الرئيس الجميل.

الجناح الرئاسي اقفل كليا، ووكذلك الرواق المؤدي اليه. مكتب الرئيس بات هو الاخر مقفلا كليا. المدخل الرئيسي للبهو الكبير الذي يؤدي الى مكتب الرئيس والصالونات وقاعة الطعام اقفلت ابوابه الزجاجية الكبيرة وصار رجال الحرس الجمهوري يحرسونه من الخارج وليس من داخل كما هي العادة. قاعة 22 تشرين اقفلت هي ايضا وكذلك قاعة السفراء، وقاعة 25 ايار التي كانت تستعمل كقاعة طعام وكمكان للاحتفالات الكبرى نظرا لاتساعها. اما الجناح المنزلي الرئاسي فقد اقفل هو ايضا بعدما اجريت جردة مفصلة بالمحتويات. صار الجناح الرئاسي من قصر بعبدا مثل قصور الاشباح لا حركة فيه ولا حياة.

خارج الجناح الرئاسي، كل شيء طبيعي. صحيح ان لا رئيس للجمهورية، الا ان دوائر الرئاسة تعمل بصورة طبيعية، والمدراء العامون ورؤساء الدوائر والاقسام يحضرون كالعادة الى مكاتبهم يتابعون الاعمال الادارية ويجمعون الملفات وقرارات الحكومة والمراسيم التي تصدرها، لاسيما بعد توليها وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية، فذات يوم سينتخب الرئيس الجديد ولا بد من ان تكون كل الملفات مكتملة وتوضع بتصرفه. ولما بدا ان الفراغ الرئاسي سيطول، كان لا بد من اعتماد اجراءات لتأمين استمرارية عطاء الموظفين وانضباطيتهم، فتم تنظيم دورات تدريبية في مجالات ادارية وتقنية ولوجستية، واعيد تنظيم الملفات وترتيبها. اما على صعيد عمل مكتب الاعلام، فاستمرت اقسام المكتب في متابعة الاحداث ساعة بساعة واعداد التقارير اليومية، ورصد وسائل الاعلام المرئية والمسموعة تماما كما كان يحصل في ظل وجود الرئيس. كما تم تنظيم عدة لقاءات صحفية لابقاء الشغور الرئاسي حيا في الاذهان والعقول وحاضرا في وسائل الاعلام كي لا يعتادوا على جمهورية بلا رئيس.

كل مديريات الرئاسة تعمل خلال فترة الفراغ كما وان لا شغور رئاسيا، وتنجز كل ما هو مطلوب منها، اداريا وماليا واعلاميا، اضافة طبعا الى الشق الامني الذي يتولاه الحرس الجمهوري. فدوائر القصر لم تعرف يوما خلال الشغور السابق او الحالي اي توقف عن العمل.