IMLebanon

القصر الجمهوري في ظل الفراغ: «الشغل ماشي»!

في بقعة جغرافية نائية عن ضوضاء المدينة، يقع القصر الجمهوري في بعبدا. هدوء يدفع إلى السكينة، ينعكس على أروقة المكاتب الإدارية. نافورة المياه لا تعمل، ولا أعراس تُعقد في الحدائق الخارجية، والجناح الخاص برئيس الجمهورية مُقفل. إلا أن أعمال الصيانة وتدريب الكادر البشري وتطوير الهيكلية الإدارية تسير وكأنه لا فراغ منذ أيار 2014. «ختم» الرئاسة حالياً بقبضة المدير العام أنطوان شقير، الذي يُشرف على هذه الورشة

وقف المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير في بهو القصر الجمهوري في 29 كانون الثاني 2014، خاطباً بقائد الحرس الجمهوري العميد وديع الغفري، ومديرين عامين، وموظفي المديرية العامة والإعلاميين المنتدبين في القصر الجمهوري. المناسبة كانت عيدي الميلاد ورأس السنة، اللذين لم يرد شقير أن يمرا دون إقامة الاحتفال السنوي بهما.

خلفه كان شعار رئاسة الجمهورية الذي اعتُمد خلال عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، وأمامه كاميرات تُسجل الحدث، فظهر وكأنه هو صاحب القصر. هذا المشهد استفزّ الإعلامية وردة الزامل، فاتصلت بشقير سائلةً إياه: «أما كان بالحري فتح مجلس عزاء عوض تنظيم احتفال؟»، ولا سيّما أنه أتى بعد سبعة أشهر على الفراغ الرئاسي وانتهاء ولاية سليمان في أيار من ذلك العام. هدف المديرية العامة، في حينه كان «عدم تهميش القصر الجمهوري نهائياً بغياب الرئيس»، استناداً إلى مصادر مُتابعة.

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي «استفزت» الرأي العام. فمدير مراسم مكتب رئاسة الجمهورية لحود لحود، بقي يُمارس مهماته وكأن القصر لم يفرغ من ساكنه: يطلب لقاء السفراء المعتمدين حديثاً ويُقدم الدروع لهؤلاء الذين أنهوا خدمتهم. لحود دخل ملاك الدولة اللبنانية في عهد حكومة نجيب ميقاتي، وهو في الأصل عُين مديراً عاماً لدى مجلس الوزراء وانتُدب بمرسوم ليتسلم إدارة المراسم في بعبدا. بقي يُداوم في مكتبه بعد الفراغ الرئاسي وأثار الجدل يوم «طلب من سفيرين عُينا حديثاً أن يزوراه في بعبدا. علمت وزارة الخارجية بالأمر، فاغتاظت على اعتبار أنه لا يحق لمدير المراسم الإقدام على تصرفات كهذا في غياب رئيس الجمهورية. من بعدها لم تتكرر الحادثة».

في غياب رئيس للجمهورية أيضاً، يُتابع المدير العام للرئاسة المشاركة في جلسات مجلس الوزراء، تماماً كما كان يحضر إلى جانب الرئيس. شقير لم يكن مضطراً إلى ذلك، فبعد انتهاء ولاية الرئيس السابق إميل لحود، تمنّع المدير العام، في حينه، سالم أبو ضاهر، عن حضور جلسات الحكومة. بيد أن شقير بادر واتصل برئيس الحكومة تمام سلام، طالباً منه عدم تغيير العادات بحضوره جلسات مجلس الوزراء. وافق «دولته»، قطعاً للطريق أمام أي ردّ فعل ممكن أن يسببه رفض الطلب. مصادر «بعبدا» تقول إنّ «سلام أراد أن تبقى رئاسة الجمهورية ممثلة في الحكومة وعدم الانتقاص من الصلاحيات اللصيقة برئيس الجمهورية».

منذ إقرار اتفاق الطائف في الـ1990، تقلص دور رئيس الجمهورية والعديد من صلاحياته آلت إلى مجلس الوزراء، قبل أن يستحوذ عليها رئيس الحكومة. ترافق ذلك مع «انهزام» الطائفة المسيحية خلال الحرب الأهلية و«القضاء» على معظم قيادييها. تحولت رئاسة الجمهورية إلى «جائزة ترضية» شكلية لهذه الجماعة التي أصبح دورها ثانوياً. الصيانة التي تُقام في القصر حالياً، الدورات التدريبية للموظفين، تسيير أمور المديرية العامة، التعديلات على هيكلية المديرية العامة ودراسة جداول أعمال مجلس الوزراء والمشاركة بها أمور تؤكد ما يقوله المصدر المُتابع: «رئيس الجمهورية شكلي». سنتان وثلاثة أشهر مرّت على الفراغ الرئاسي، من دون أن يكون لذلك أي أثر مباشر في حياة اللبنانيين. القصر الجمهوري أيضاً لا يتأثر بالفراغ. هو أشبه بمؤسسة لها هرميتها غير المرتبطة بـ«الرأس»، خاصة بوجود مديرين عامين يعملون بموجب وكالة وقادرين على تسيير الأمور الأساسية. «إذا انتُخب رئيس غداً يكون كل شيء جاهزاً». هكذا تُلخص المصادر المطلعة على وضع قصر بعبدا واقع الأمور في مقرّ رئاسة الجمهورية. فالأمور «تسير بشكل عادي، وكأن لا شيء تغير. ما ذنب الموظف إذا لم يكن هناك رئيس؟».

مشروع قانون جديد للهيكلية

تُعَدّ المديرية العامة «الذراع اليمنى» لرئاسة الجمهورية. اختصاصها «متابعة الأمور المتعلقة برئاسة مجلس الوزراء». فهي تدرس جدول أعماله، تعطي رأيها ببنوده، تُصدر المراسيم والقوانين. لم يتبدل الكثير بعد الفراغ، «سوى أنها لم تعد تُقدم رأيها في ما خص الجدول». تقول المصادر المعنية إنه سابقاً «كنا نتلّهى مع الرئيس، ولكن اليوم نستفيد من الوضع القائم من أجل إعادة تنظيم وهيكلة المديرية العامة، تسهيلاً لمأسستها».

جرت مكننة قسم الموارد البشرية، المحاسبة، تنظيم البريد الصادر والوارد إلى القصر والبريد الداخلي «ويجري الإعداد لنيل شهادة الجودة Iso». بدأ العمل بمشروع الأرشيف الإلكتروني المعنيّ بإعادة جمع ومكننة كل المراسيم الصادرة منذ عام 1943 والقوانين منذ عام 1926 «التي تحمل التواقيع الأصلية وغير الموجودة إلا في بعبدا». إلى جانب ذلك، يعمل الإعلامي والمستشار السابق لميشال سليمان، الزميل جورج غانم، على تكوين أرشيف رؤساء الجمهورية الذين قُسِّموا إلى قسمين: ما قبل الاستقلال وما بعده. «نُحاول جمع نُبَذ عن حياتهم، الأفلام، الصور والمحاضر. مثلاً هناك قرابة 50 ألف صورة، ولكل منها بيانات تعريفية».

مصادر في قصر بعبدا تتحدث عن أنّه خلال عهد سليمان «استُحدثَت أقسام داخل الدوائر، الهدف منها توظيف أكبر عدد من المحسوبين عليه، أو حتى يستفيد هو منها بعد نهاية ولايته». مثال على ذلك، قسم رؤساء الجمهورية السابقون الذي من مهماته «التواصل عند الضرورة مع رؤساء الجمهورية السابقين للوقوف على حاجاتهم والعمل على تلبيتها وفق الإمكانات المتوافرة». بيد أن مصادر أخرى تُدافع عن هذا القسم باعتباره «صيغة توصلنا إليها لنبقى على تواصل مع الرؤساء السابقين». هذا القسم سيكون جزءاً من مشروع القانون الجديد الذي يعمل عليه شقير وعدد من المديرين العامين «من أجل إعادة هيكلة الإدارة وتحويلها إلى مؤسسة». دور المديرية العامة «رسم المخطط وإبداء الرأي، ولكن سيكون للرئيس الجديد الكلمة الفصل». عدّة ملاحظات يُبديها مصدر مسؤول في بعبدا على مشروع القانون هذا، «فهل من الجائر استغياب رئيس الجمهورية ووضع المخططات دون استشارته في ذلك، وكأنه يُوضَع أمام الأمر الواقع؟».

العمل الإداري في «بعبدا» لم يتبدل كثيراً. خُفض عدد الموظفين، فأصبحوا قرابة المئة «يحضرون إلى عملهم وكأنه دوام رسمي». إضافة إلى عملهم الاعتيادي، «يخضعون باستمرار لدورات تدريبية بغية مواكبة التحديثات التي تطرأ على دوائرهم».

إعادة تأهيل «الحجر»

تُحاول المديرية العامة لرئاسة الجمهورية الاستفادة من الفراغ من أجل صيانة الحدائق المحيطة بالقصر، جناح الرئيس والسيارات التابعة لموكبه. على العكس مما كان يحدث خلال الفراغ الذي تبع ولاية لحود، «حيث إننا كنا نعتبر أنه لا يجوز القيام بأمور بحاجة لرأي الرئيس»، استناداً إلى مصدر واكب تلك المرحلة. تُبرر مصادر القصر بأنه «لم يكن من الممكن القيام بالصيانة بوجود رئيس، فهذا سيُسبب الإزعاج له وليس من اللائق أن يكون يستقبل الزوار والأعمال تسير». يجري العمل على «تحويل القصر إلى مكان صديق للبيئة واستعمال الطاقة الشمسية والتوفير في الإنارة»، مع وضع «آلات لالتقاط الصواعق وأجهزة ضدّ الحرائق». أما بالنسبة إلى سيارات الموكب «فقد اعتُنيَ بها ميكانيكياً، وهي جاهزة في أي لحظة يُنتخب فيها الرئيس لتقلّه من مجلس النواب إلى قصر بعبدا».

ميزانية الرئاسة الأولى:

19 مليار ليرة

تبلغ ميزانية رئاسة الجمهورية 19 مليار ليرة سنوياً «من ضمنها تندرج رواتب الموظفين». بعد الفراغ الرئاسي، «حرصت وزارة المال على صرفها في موعدها وكل ستة أشهر يُقدم تقرير من بعبدا إلى المالية». من هذه الموازنة تُغطّى المصاريف «وقسم كبير منها لا نستعمله بسبب انخفاض المصاريف، التي كان يُصرف جزء منها على أسفار الرئيس».

على الرغم من أن العمل لم يتوقف في القصر الجمهوري بعد فراغه، إلا أن الهدوء يُسيطر عليه. الاستغناء عن مهمات بعض العاملين وتباطؤ وتيرة العمل، أسهما في ذلك. ميشال سليمان لم يعد حاضراً إلا من خلال الشعار الذي صمّمه لولايته، رغم وجود شعار للدولة اللبنانية. أما على صعيد النفوذ، فالمصادر تؤكد: «منذ اليوم الأول أصبح بالنسبة إلينا رئيساً سابقاً».

الحرس الجمهوري، قيادة مستقلة؟

الزيارات لقصر بعبدا لا تجري من دون «حماية» لواء الحرس الجمهوري. المهمة الأساس لـ«الدراغون» (كما كان يُعرف الحرس الجمهوري في عهد الانتداب الفرنسي) هي حماية رئيس الجمهورية. في البدء كانت «سرية الحرس الجمهوري المستقلة» التي أنشئت عام 1974، وهي لم تتحول إلى فوج تابع لقيادة الجيش إلا في عام 1984. منذ بداية عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، ومن ثم مع الرئيسين إميل لحود وميشال سليمان «اكتسب لواء الحرس الجمهوري أهمية خاصة لم تكن موجودة في عهد الرئيس أمين الجميل». في الماضي «لم يكن معنياً بالتفاصيل كما هو اليوم»، فكانت قيادة «الحرس» بإمرة العميد وديع الغفري «تُبدي رأيها أحياناً بزوار القصر الجمهوري وبإمكانية إعاطائهم موعداً أو لا». تتحدث المصادر عن «تكامل بين الحرس ورئيس الجمهورية، ما سمح بخلق نهج عمل مستمر حتى اليوم، وإن بوتيرة أقل بعد مغادرة الرئيس».

استناداً إلى القانون، يتبع الحرس الجمهوري إلى قيادة الجيش اللبناني، «ولكنه يتمتع باستقلالية معينة، خاصة في ما يتعلق بأمن الرئيس». ولكن عملياً، «قيادة الجيش تغض الطرف عن كل ممارسات هذا اللواء منعاً للاحتكاك مع الرئيس». مع الفراغ الرئاسي في أيار الماضي، عاد «الحرس» ليأتمر من قيادة الجيش «وعُمل على نشر عناصره في المناطق المحيطة بالقصر الجمهوري. مركز الغفري في بعبدا حيث ثكنة اللواء ولا يُمكن زائرَ بعبدا أن يلج المكان من دون بطاقة الدخول التي يُصدرها الحرس الجمهوري». هذا على الورق. أما في الواقع، فالغفري لا يزال «المستشار» (غير الرسمي) الأقرب إلى سليمان.

«رئيس الجمهورية» أنطوان شقير

تُشبه المديرية العامة لرئاسة الجمهوري، مجلس الوزراء على مُصغَّر. يقبض رئيسها أنطوان شقير على مفاصلها، فالقرارات تصدر باسمه. ابن ذوق مصبح (كسروان) كان في الأساس يعمل في إحدى الشركات، وهو يُمارس مهنة التعليم في إحدى الجامعات الكسروانية. صديق لصهر ميشال سليمان، وسام بارودي، يبلغ الأربعينيات من العمر. يصفه البعض بأنه حالياً «هو رئيس الجمهورية»، وبأنه «تحرّر بعد مغادرة سليمان القصر»، بمعنى أنه بات يتمتع باستقلالية أكبر. إلا أنّ من يعرفه ينقل عنه أنه «حتى خلال عهد سليمان حاول أن يبقى بعيداً عن السياسة، فشغلته هي تقنية. يريد أن يلعب دوراً محايداً».