منذ اصبح الدستور في لبنان لدى البعض وجهة نظر، كثرت التفسيرات والاجتهادات وابتداع الآليات، وما من جهة تعتبر صالحة لتحسم الخلافات حول نصوص يراها البعض ملتبسة. فتشكيل الحكومات بموجب الدستور يتم بعد استشارات نيابية يجريها رئيس الجمهورية لتسمية رئيس الحكومة، وبعد تسميته يجري الرئيس المكلف بدوره استشارات لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها ويتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها، ويدعو مجلس الوزراء الى الانعقاد ويضع جدول اعماله، ويطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمنها وعلى المواضيع الطارئة التي ستبحث.
هذا النص الصريح الواضح في الدستور تحول وجهات نظر مختلفة، فصار تشكيل الحكومة رهنا بموافقة الاحزاب والكتل، وتوزيع الحقائب الوزارية رهنا ايضاً بموافقتها وكأنها هي التي تشكلها وليس الرئيس المكلف والا استمرت ازمة التشكيل اشهرا طويلة.
وفي انتخاب رئيس الجمهورية نص الدستور صراحة على ان يلتئم مجلس النواب بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس قبل موعد انتهاء ولاية الاخير بمدة شهر على الاقل او شهرين على الاكثر، واذا لم يُدعَ المجلس لهذا الغرض فانه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس. لكن النواب الذين يتخلّفون حالياً عن حضور جلسات الانتخاب ومن دون عذر شرعي يدّعون أن لهم الحق في ذلك مستندين الى تفسيرهم لمعنى “الديموقراطية”، وهو تفسير خاطئ لأن الديموقراطية تحمي المؤسسات ولا تعطلها وذلك من خلال جعل الاكثرية تحكم والاقلية تعارض، وليس من خلال حكم لا يقوم الا بتوافق الجميع بحيث يصبح خطر الفراغ الشامل داهماً اذا لم يتم هذا التوافق.
ونص الدستور على أنه في حال خلت سدة الرئاسة الاولى بسبب وفاة الرئيس او استقالته او لسبب آخر، فلأجل انتخاب الخلف يجتمع مجلس النواب فوراً بحكم القانون، واذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً، تدعى الهيئات الانتخابية من دون ابطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الاعمال الانتخابية. وهذا يؤكد ان الاولوية في كل الحالات هي لانتخاب رئيس وان المجلس الملتئم لانتخابه يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة تشريعية. فلو ان مجلس النواب كان منحلاً او انتهت ولايته، فكيف يمكن دعوة الهيئات الانتخابية من دون ابطاء ولا قانون تجرى الانتخابات على اساسه، وان اجراءها على أساس القانون النافذ مرفوض؟ ولو لم يكن الدستور في لبنان اصبح وجهة نظر لدى البعض لكان ينبغي اجراء الانتخابات عند انتهاء ولاية المجلس على أساس القانون النافذ، أو صار بت مشاريع القوانين المقترحة بالتصويت عليها، لا أن تبقى في دائرة الجدل خارج المجلس ليصبح التمديد لا بد منه كأهون الشرّين… ولا كان تعطل انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية.
ولا بد من التذكير بأن الحكومة الحالية عندما تشكلت فلكي تناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة الى أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية، ولم يكن أحد يتوقع بقاء هذا الانتخاب معطلاً الى أجل غير معروف والحكومة الموقتة تصبح حكومة دائمة والى أجل غير معروف ايضاً.
وهكذا عاد الخلاف ليحتدم بين ممثلي القوى السياسية الاساسية في الحكومة، فمنهم من يريد انتخاب رئيس للجمهورية كي يعود العمل الى طبيعته في كل المؤسسات ولكي لا يعتاد الناس على مؤسسات تعمل من دون رئيس، ومنهم من يريد لهذه المؤسسات أن تعمل ولو في الحد الأدنى تسهيلاً لمصالح الوطن والمواطن، فصار ما سمّي “تشريع الضرورة”، وقد يقع خلاف حتى على ما هو ضروري وما هو غير ضروري… وفي مجلس الوزراء يشتد الخلاف على إقرار المشاريع والقضايا المطروحة عليه بين من يريد أن تتم الموافقة عليها بالاجماع ومن يريد الموافقة عليها بالاكثرية المطلقة أو بأكثرية الثلثين تطبيقاً للمادة 65 من الدستور، وإلا كان في استطاعة أي وزير تعطيل كل شيء حتى العادي من المشاريع، فتواجه البلاد عندئذ خطر الفراغ الشامل أو خطر التجاذب القاتل بين سياسة التعطيل وسياسة التفعيل.
وثمة من يقترح حلاً للخلاف على آلية اقرار المشاريع في مجلس الوزراء وذلك بأن يصير التصويت بالأكثرية على اعتبار المشروع المطروح ضرورياً أو أساسياً أو عادياً، فإذا اعتبر عادياً تمت الموافقة عليه بالأكثرية، وإذا اعتبر أساسياً وضرورياً تمت الموافقة عليه بأكثرية الثلثين أسوة بما يفعله مجلس النواب عندما تطرح عليه مشاريع بصفة المعجل، فإما يوافق بالأكثرية على اعطائها هذه الصفة، وإما لا يوافق. لكن الحل الجذري يكون باستعجال انتخاب رئيس للجمهورية للخروج من الوضع الشاذ.