في المشهد الرئاسي ثلاث صور: واحدة في الشكل هي نوع من صدام الإرادات بين قوّتين لكل منهما موقف ثابت. وثانية في الجوهر هي اصطدام الهيمنة التي يريد «الثنائي الشيعي» تكريسها بحائط صلب نواته القوى المسيحية الأساسية. وثالثة هي إصرار إحدى القوّتين على إدارة الصدام والإصطدام بمقاربة من علامات المحنة المصنوعة في لبنان، وهي دفع الناس الى التسليم بأن مسرح المجلس النيابي ليس المكان المناسب لمعركة رئاسية. وليس ذلك كلّه قدراً لا يُردّ.
ذلك أن «تقاطع» المعارضين والتيار الوطني الحرّ على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور في مواجهة الوزير السابق سليمان فرنجية الذي رشّحه «الثنائي الشيعي» يفتح فرصة للعودة الى الأصول. فالقاعدة في المعارك الرئاسية في أي نظام ديمقراطي، ولو كان ناقصاً، هي التنافس بين مرشحين. والإستثناء في بعض البلدان، وبينها لبنان، هو التوافق. لكن «الثنائي الشيعي» يلعبها مزدوجة: فمن جهة يرفض التنافس ويسارع الى اعتبار أزعور مرشح «تحدٍ ومواجهة» والقول إنه لن يصل الى «بعبدا» ويتّهم القوى التي رشّحته بأنها تناور من أجل مرشح ثالث. ومن جهة أخرى يمسخ مفهوم التوافق بالحرص على أن يكون حواراً للموافقة على خياره.
ولا أسرار في رفض «حزب الله» التنافس الإنتخابي الرئاسي. فهو يكرّر القول على ألسنة مسؤوليه: «نحن الأقوياء والثابتون الذين يحدّدون مستقبل البلد». ويمارس غطرسة القوة والإستكبار على الشركاء في الوطن، على عكس الشعار الذي ترفعه الجمهورية الإسلامية في إيران والفصائل المرتبطة بها، وهو مواجهة «الإستكبار العالمي». وهو يستغرب كيف يجرؤ أي فريق لبناني على مواجهة مرشّحه، ما دام يملك من وسائل القوة ما حقّق له «نصراً إلهياً» على العدو الإسرائيلي وحقّق «توازن الردع» معه، وساهم في إنقاذ النظام السوري ومساعدة «أنصار الله» الحوثيين في اليمن ولولاه لكان لبنان أسير العدوّ.
وليس غريباً أن نسمع يومياً خطاب المفاخرة بالقوة. الغريب هو تناسي ما حلّ بلبنان من كوارث وأزمات على أيدي المافيا السياسية والمالية والميليشاوية الحاكمة والمتحكّمة، وسط كل ما لدى «حزب الله» من صواريخ وعناصر القوة، وكل ما في حمايته للتركيبة الفاسدة بحجة الحماية المفترضة لظهر المقاومة. والأغرب هو حرمان البلد المنهار الذي تنحلّ دولته وتضعف سلطته من آخر ما بقي له حتى في الشكل، وهو التمسّك بقواعد اللعبة الديمقراطية. فما يصرّ عليه «الثنائي الشيعي» هو دفع الناس الى التكيّف مع الخروج على قواعد اللعبة.
والمعركة الرئاسية محكومة، حتى إشعار آخر، بالبقاء خارج المسرح النيابي. معركة بلا أقنعة ولا قفازات. معركة الرهان على أدوار خارجية وبينها الدور الفرنسي من جانب «حزب الله» الذي يتّهم معظم القوى السياسية بأنها تنتظر الأوامر من الخارج الذي تخدمه ومعركة قوة فئوية صاعدة تدعمها قوة إقليمية غالبة للهيمنة على قوى نازلة.
من مشاكل عالمنا العربي ما سمّاها محمد أركون «السياجات الدوغمائية المغلقة». ولبنان أسير داخل تلك السياجات. لكن من الوهم الرهان على استمرار الأسر.