التبدّلات في المشهد الرئاسي تجري على قدم وساق. خارجياً، تُظهِر الولايات المتحدة قدراً جديداً من الاهتمام، ينعكس في ثرثرة كانت قد اختفت لشهور. القادمون من واشنطن ليس لديهم جديد سوى التأكيد على الثوابت الأميركية: عدم السماح بتوسّع نفوذ حزب الله، وخلق عراقيل أمام أي خطة للتطبيع الكامل مع سوريا، وضمان ألا تأخذ آليات بناء السلطة الجديدة الجيش بعيداً عن الموقع الذي ساهم الأميركيون في صنعه خلال السنوات العشر الأخيرة. لكنّ مركز الاهتمام الأميركي لا يزال نفسه: الإمساك بالنظام المالي والنقدي في لبنان!
وفق هذه القواعد، لا تكترث الولايات المتحدة كثيراً للأسماء. بمعنى أنه في حال ضمن المتّفقون لها مصالحها هذه، فلن تقف في وجه أي اسم تنتجه التسوية. أما في حال تعثّر المساعي الفرنسية، فستعود واشنطن إلى رفع لافتة مرشحها الرئيسي، قائد الجيش العماد جوزيف عون.
فرنسا تظهر تشدداً حيال إدارة المفاوضات حول الملف الرئاسي. لا حاجة إلى شرح كثير لإظهار أن فرنسا انتزعت، أو أخذت، التفويض بتولّي إدارة الاتصالات. لكنها تعرف أن للولايات المتحدة حق الفيتو في حال سارت الأمور على نحو لا يناسب واشنطن. لذلك، لا تزال باريس تعتقد بأنها الطرف الوحيد الذي يمكنه أن يشكّل «جسراً» بين فريقين، أحدهما يقوده حزب الله، والآخر برؤوس عدة. وعندما اقتنعت باريس بعرض التسوية القائمِ على مقايضة رئيس الجمهورية برئيس الحكومة، كانت تدرك أن الواقعية في التعامل مع الظرف اللبناني لا تتيح خياراً أفضل. لا يعني ذلك أن فرنسا لا تدرك حقيقة الانقسامات، لكنها تعرف أن قدرة التعطيل التي يتسلّح بها الأفرقاء كافة بسبب عدم وجود غالبية واضحة في مجلس النواب، هي قدرة نسبية. بمعنى أن خصوم التسوية قادرون على إرجاء انعقادها عبر تعطيل النصاب، وتعتقد فرنسا بأنّ في يدها ما يمكن أن يمنع هؤلاء دون الذهاب بعيداً في هذا التعطيل. فيما، في المقابل، تتجاوز قدرة حزب الله على التعطيل نصاب الجلسة، إلى منع أي رئيس جديد لا يحظى بموافقته من تحقيق أي شيء فعلي. هذا في لبنان فقط، فكيف إذا كانت باريس وواشنطن وبقية عواصم اللقاء الخماسي، تناقش قدرة الحزب على التعطيل من خارج الساحة اللبنانية، وهو الأمر الأهم.
هذه القواعد هي التي أتاحت لفرنسا السير بالتسوية، والتفاهم مع السعودية على أن تعود الأخيرة خطوة إلى الخلف برفع الفيتو عن أي مرشح، خصوصاً عن سليمان فرنجية. كما أتاحت لها تمديد فترة السماح الأميركية لها. وفرنسا، الممتنّة للصمت المصري، تشعر بأن ما تقوم به قطر يتجاوز قدرات هذا البلد، بل تنظر إليه كفعل يعكس خلفية الموقف الفعلي لواشنطن والرياض، خصوصاً أن قطر لا تتوقف عن طرح اسم قائد الجيش مرشح تسوية.
عودة الاهتمام الأميركي، لكن من زاوية معارضة التطبيع مع سوريا والحفاظ على موقع الجيش وضمان بقاء النظام المالي تحت السيطرة
في هذه الأثناء، كان الجميع يعطي المساعي الداخلية الفرصة الكافية لإنضاج مناخ سياسي جديد. وبعد أسابيع على تظهير الموقف السعودي الجديد بعدم التدخل في الرئاسة، تبيّن للجميع أن التبدل الجوهري المطلوب لم يحصل. وأبرز الإشارات على ذلك، موقف وليد جنبلاط من جهة، وطبيعة الحركة التي قامت بين قوى المعارضة لفرنجية من جهة ثانية. وفي هذا السياق، أيقن الفرنسيون بأنّه ليس بمقدورهم إقناع أحد بتغيير نوعي في موقفه، وإن كانت باريس تعتقد أن جنبلاط قد لا يبقى على موقفه السلبي الحالي، كما تتحدّث عن قدرتها على تغيير موقف عدد من النواب المصنَّفين في خانة «المستقلّين» أو «التغييريين».
الجديد الحقيقي يتمثل في النقلة النوعية في مقاربة الملف لدى القوى المعارِضة لفرنجية في الوسط المسيحي، إذ تراجعت القوات اللبنانية عن الشروط المعقّدة والسقوف العالية. وقبلت بتسوية تأتي برئيس لا يكون على جدول أعماله أي بند له صلة بمواجهة حزب الله، وهو موقف كان حزب الكتائب قد وصل إليه بعد زيارة رئيسه سامي الجميل لباريس. أما النقلة الكُبرى، فتمثّلت في موقف التيار الوطني الحر، عبر موافقة رئيسه النائب جبران باسيل على السير في مشروع مرشح منافس لفرنجية، ولو تطلّب الأمر تحالفاً مع القوات والكتائب وعدد من النواب، وهؤلاء جميعاً يقفون في صف المواجهة لا المعارضة لحزب الله.
بناءً على ما تقدّم، نحن أمام مشهد فيه وضوح كبير، وبعض الغموض. الوضوح يتمثّل في قيام جبهة مسيحية واسعة ضد فرنجية، وهي جبهة تواجه عملياً حزب الله، وهذا أمر له انعكاساته على أمور كثيرة في المرحلة المقبلة. أما الغموض فيتعلق بالتحدي غير المسبوق أمام وليد جنبلاط الذي يمر في أصعب المراحل السياسية. فهو، من جهة، كان يأمل بتوافق عام يساعده في عملية نقل القيادة إلى نجله النائب تيمور، وبتسوية تعيد ربطه بشبكة أمان إقليمية. ومشكلة جنبلاط الأساسية، في هذه النقطة، تتمثّل في الموقف السعودي الذي يبدو أنه لا يريد العودة إلى القواعد السابقة في علاقات الرياض مع الأطراف اللبنانية، ما يعني أن على جنبلاط الابتعاد قليلاً عن مسرح المواجهة، ليتمكّن من صياغة خطواته اللاحقة، لعدم قدرته على خوض مواجهة شاملة على عدة جبهات.
ما سيرصده اللبنانيون في المرحلة القريبة المقبلة، يتمثّل في جدية الفريق المعارض لفرنجية وقدرته على تظهير مرشحه (لا يزال جهاد أزعور هو الأوفر حظاً) بطريقة متماسكة ومضمونة النتائج، لأن هذه الخطوة تمثل أساس التحرك الذي سيقوم به البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي استفاد من التوافق بين «القوى المسيحية» ليحمل معه ورقة مساومة في محادثاته المرتقبة مع الفرنسيين. والراعي ليس طرفاً يمكنه وضع الفيتو على أحد. لكن لا يمكنه تجاهل توافق غالبية مسيحية على مرشح يدعمه هو أصلاً. وواضح من المعطيات المتصلة بزيارة الراعي أن مهمته باتت محصورة الآن في إقناع الفرنسيين بأن التسوية التي يسيرون بها، تخالف توجهات غالبية مسيحية كبيرة، نيابية وسياسية، وسيقدم الراعي الأمر، من زاوية أن الفريق المعارض لفرنجية، نجح في اختيار مرشح جديد، وبالتالي، فإن على فرنسا ودول اللقاء الخماسي تعديل وجهة النقاش، لناحية فتح حوار حول أي مرشح هو الأنسب، لا العمل على إقناع الناس بالتصويت لفرنجية حصراً.