أخفق سليمان فرنجية في «إقناع» ميشال عون. «الجنرال» معتصم بالترشيح إلى ما لا نهاية. متكئ على حليف يَعِد ويفي. سعد الحريري يحتمي بالغياب. يلملم أصداء الإخفاق وفتات التسوية. يحاول ملكاً ولو عبر «الأعدقاء». وليد جنبلاط يحصد الأولوية والمحاولة ويغسل يديه… النتيجة: «انتخابات» الرئاسة مؤجلة، ريثما تسفر حرب اليمن عن منتصر، وحروب سوريا عن خاسر، والعراق عن بدائل، وريثما يركد الصراع السني ـ الشيعي المندلع منذ أعوام، ولسنوات مقبلة.
لا تنفع تزكية دايفيد هيل، ولا توصيات فرنسوا هولاند، ولا مباركة العسيري في بيروت. ليس لباب الرئاسة في لبنان مفتاح واحد، لا يُحصى عدد المفاتيح. الرئاسة باب بأبواب متعدّدة، ولكل باب مفتاح بيد عاصمة. لكن المفتاح الأصلي في جيب «الجنرال». مفتاح يشبه الختم.
استعجل اللبنانيون الأحكام. من رحَّب بالتسوية الفاشلة، كان يراهن على حلّ… ولقد كان الحل «مقنّعاً»، كسراب بعيد، في صحراء مفتوحة على امتداد أعمى. رأى في التسوية مشهداً جديداً: «14 آذار» تتداعى، و «8 آذار» ينحسر، والمجلس النيابي سيشهد حفل التنصيب، بأصوات مرجحة، وقد تعود الحياة إلى «الديموقراطية» اللبنانية. وآمال أخرى متواضعة جداً… حتى هذا لم يحصل. الجنرال يحرس بوابة القصر الجمهوري. تصدأ مفاتيح العواصم، إلا مفتاحه.
في بلد كلبنان، لا يُعتَدّ بالديموقراطية. هذه ديكور. يُعتدُّ فقط بالقوى والمصالح والحصص. لـ «الجنرال» قوة لا ينكرها عليه أحد، ولكنها غير كافية. الديموقراطية تُنقِصُ من وزنها وأرجحيتها. لذا، ممنوع الاحتكام إلى الانتخابات أو الاقتراع. أرجحية الأصوات المضادة تمنع عنه «حقه الأكثري الطائفي» من بلوغ بعبدا. يعتصم بالتوافق عليه. كل توافق على غيره، حرب عليه. يسمّيها: «حرب إلغاء». ولا يلغي أحد نفسه، فكيف يقبل «الأقوى» بتحكّم «الأقليات» المتجمعة ضده. «وما في الظلم مثل تحكُّم الضعفاء»، كما جاء في «مساء» خليل مطران.
«الديموقراطية» في لبنان، استعارة. لا يحتكم الفرقاء في «الدولة» إلى المؤسسات التي يرعاها الدستور وتنصّ عليها القوانين. أحياناً، إذا طُبِّقَ الدستور واحتُكِمَ إلى القوانين، يسقط البلد في العنف. الشرعية اللبنانية موزعة على أقطاب الطوائف والتيارات ويلزم التقيد بها. نوع من حكم العشائر، وصلح القبائل… النظام يرعى التعدد، على أن تكون السلطة خارجه… لبنان، الفريد في نظامه، حكامه خارج مؤسساته. لا نجد زعيماً لتيار أو مذهب يتواضع ليكون وزيراً. يرسل «موظفاً أو «مرابعاً» نيابياً ليحرس حصصه ويذود عن مصالحه… تقريباً، كلهم خارج المؤسسات، وتقريباً كلهم يحضرون الحوارات الجارية على ضفاف المؤسسات وليس في قلبها، أي لا في مجلس الوزراء ولا في مجلس النواب. الديموقراطية العددية عدو الأقليات، ولبنان تحفة الأقليات الموروثة والمتحجرة، والتي تتغير باتجاه تقليد الماضي، وليس من أجل العبور إلى المستقبل: الدولة والمواطنة والديموقراطية.
الديموقراطية وفق النص الدستوري والقوانين الناظمة لانتخاب الرئيس، لا تتناسب مع الجنرال. تخونه الأرقام. يبقى أن يعتصم بالتوافق، ولو كان متعذّراً أو مستحيلاً. وإذا تعذر التوافق، فلا بأس أن يصبح الفراغ فريضة سياسية يتبادل أعمالها الفريقان، بالتعطيل أو الاستئثار، ثم العودة إلى نصاب طاولة الحوار، ليستعاد فصل هزلي وساخر يبحث في مواصفات الرئيس. عند عون، مواصفاته كمرشح، هي المواصفات المثالية لأيّ رئيس. علماً أن لا أحد يشبه الجنرال، غير ميشال عون.
عسى أن يقتنع اللبنانيون بأن دولتهم فاشلة وقياداتهم عاجزة والشعب لا يستحقّ إلا هذا المصير البائس. يعوّضون هذا البؤس السياسي بمقارنة لبنان بمحيطهم المشتعل، فيفركون أيديهم نجاةً من العنف الذي يعيشون على حافته أو على ضفتيه، من اليمن إلى القلمون.
فوداعاً للرئاسة، إلا إذا… في هذه الأثناء، سيعيد كل تيار ترتيب بيته الذي عبثت فيه التسوية الرئاسية العابرة. ستضمَّد جروح على زغل. فرنجية وعون لن يكونا معاً إلا على مضض وتربُّص. جعجع والحريري سيكونان معاً على حذر صعب. ستسود لغة خشبية لأشهر كثيرة، تروى القصة نفسها تكراراً ومراراً. المواقف ذاتها طبق الأصل. وينصرف المستقلون إلى إسدال الستار عن المشهد، بانتظار «وصيٍّ» إقليمي ـ دولي متعدّد، يتطابق مع تحولات لا أحد يعرف مواعيدها.
فلتنسدل الستارة على «الديموقراطية» في لبنان. ليستعدّ الجميع إلى تأهيل «ديموقراطيات» تعددية، مذهبية وإثنية، ستسفر عنها الحروب المشتعلة في المنطقة. النموذج اللبناني الفاشل هو الحل المثالي لجماعات التوحش السياسي والديني والإثني و «الداعشي»… تعلَّموا الفشل من التجربة اللبنانية.
فليتواضع اللبنانيون قليلاً. ليكتب أهل الفكر السياسي بقلم آخر. ما كتبوه عن الديموقراطية والميثاقية و «لبنان الرسالة» ولبنان بجناحيه، ولبنان بكذبة «العيش المشترك»، هي كتابات بائرة وعاقرة ولا تنجب غير الادعاء الفارغ. هذا بلد فاشل. هذا وطن طارد لأهله. أكثر من ثلثه لا يهتم إلا بتأمين «فيزا». مواطنون من أجل «فيزا». هذا بلد فاشل بشعبه. شعب مصطفّ في فسطاطين. «14 و8 آذار». يكثر النقيق، وهو المسؤول عما آلت إليه ارتهاناته المناسبة لهوياته اللعينة…
صدقاً، لن تتغير أمور كثيرة إذا انتخب رئيس جديد، أيَّاً كان. المشكلة ليست في الرئاسة، بل في ما رست عليه الصيغة الطائفية، منذ المتصرفية. هذا هو لبنان، كلما كبر عاماً، مات أعواماً. لا أمل لأجياله فيه. الريف يفرغ. القرى تقفل أبوابها على عَجَزة في آخر العمر. بيروت الكبرى تختنق. غابة من الإسمنت. كاراج فظيع. طرقات لعينة مقفلة بالعجقة. لا حلول للنفايات. الجامعات التي تفرِّخ يتحكم فيها رجال السياسة والمال الذين سلبوا الجامعة اللبنانية. سيَّلوا الإعلام الرسمي، فاقتنصه الإعلام الخاص الطائفي والمذهبي. دلّونا على مسألة واحدة وجدت حلاً. هذا بلد مختص بإعدام الحلول. لا قضاء، لا تفتيش، لاعدالة، لا تنمية… وحدها عقيدة النهب تحيا على أنقاض ما تبقى من تعب الناس. بلد مرتهن لقبضة من المليارديرية وقادة الطوائف التي تدير المعارك بمنطق المحاور العسكرية.
ماذا تبقَّى للبنانيين غير ما صنعته أيديهم؟
إنهم يستحقون هذا العقاب، ويصفقون له.
والله حرام. يستحق هذا البلد الذي تحرَّر من إسرائيل، أن يجد مَن يُحرِّره من طغمة الطائفية السياسية والمالية و…
لكن لا شيء في الأفق من هذا القبيل.