عندما توفّي البابا بيـوس السادس إجتمع مجلس الكرادلة لانتخاب الخـلَف، ولمّا تكرَّرت المناقشات وطالت الإجتماعات دون جدوى، ضـاق أهـل روما بخلاف الكرادلة فأغلقوا عليهم الأبواب بواسطة سورٍ بشري، ومنعوا عنهم الطعام والمـاء، فكان للجوع والعطش فضـلٌ في ظهور الدخان الأبيض..
ماذا، عن أهـل لبنان، وعن كردينال لبنان وسائر العمائم، يشاهدون الجلسات البرلمانية الإنتخابية مشرَّعةً على أبواب المهازل، وهم يغلقون على أنفسهم الأبواب وينتظرون الدخان الأبيض من رومـا.
وماذا ينتظر اللبنانيون، ولبنان يتخبّـط بالدخان الأسود، حتى يطوِّقـوا نواب البرلمان بشريطٍ بشريّ شائك، ويمنعوا عنهم الماء والغذاء والدواء والكهرباء، بما يعانيه الشعب من جـوع وعطش ووجـع.. ومثلما أنّ المعـدة الشرهة بيتٌ للـدّاء فقد تكون أيضاً بيتاً للإنتخاب.
وماذا، عن نواب الأمّـة وقد انقسموا إلى مجلسين نيابيِّـين: مجلس سيادي، ومجلس ممانع، يستنفر كـلٌّ منهما على الآخر خلف متراس من الرمـل، فإنْ كانت المواجهة المجلسية تعتمد أوراق التصويت المحروقـة وأصوات الخرطوش الفارغ، فليس من يضمن في ظـلّ التشنّج المحموم والهيجان الشعبي من أن تنتقل المواجهة إلى الشارع، ويتحوّل معها الخرطوش الفارغ إلى نـارٍ بالرصاص الحـيّ.
لم نفهم بعد، ما هـو تفسير الممانعة وما هو تفسير السيادة: المعارضة ممانعة، والممانعة سيادة، وكلٌ يفسرّ خطابه الوطني بحسب قاموسه
أمّـا أنا فعندي في اختلاط السيادة بالممانعة تفسيرٌ آخـر عبّـر عنه المتنبي للملك سيف الدولة بقولٍ على حـدّ السيف.
بـمَ التعلُّلُ لا أهلٌ ولا وطـنٌ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكَـنُ
كمْ قدْ قُتِلْتُ وكمْ قدْ مُـتُّ عندَكُم ثمَّ انتفضْتُ فزالَ القبرُ والكفَنُ.
أمّـا بعد، فكمْ جلسة برلمانية ، وكم من حكاية خرافية من حكايات ألـف ليلة وليلة، سترويها شهرزاد لشهريار في انتظار إنجابِ صبيّ للسلطان وانتخاب رئيسٍ للبنان …؟
وهل سيظلّ التذرّع بالدستور حجّـةً شرعية للتعطيل حتى ولو أدّى ذلك إلى خـراب البصرة بكلّ ما تعرّضتْ له مدينة «شطّ العرب» من حروب ونكبات وغـزوٍ ومؤامرات وتهجير وتدمير…؟
أهكذا، تقول الدساتير…؟
وهل يصحّ أنْ يكون للفراغ تبريرٌ إستناداً إلى روحية الدستور، حتى ولو كان الفراغ قاتلاً…؟ مع أنّ للدستور روحاً ضمنيةً أخرى لا يمكن أنْ تشكّل مبرّراً وسبباً لقتل الأرواح.
إسمعوا، ما يقول لكم ذلك الجبران… جبران خليل جبران في كتاب النبي: «إنّكم تجدون لـذّة في سنّ القوانين ولكنَّكم تجدون لـذّة أعظم في انتهاكها..».
ثـمّ، إذا كان هذا الدستور التعطيلي يحـول دون انتخاب رئيس من مرشّحيَنْ، فكيف يصبح متاحاً أمـام انتخاب مرشّح ثالث..؟ إذا ما استمّر المجلس النيابي في انقسامٍ عنيف، كأنَّ فيه جبلَيْـنِ متصلِّبين لا يلتقيان، وليس هناك إيمانٌ وطني عميق من شأنـهِ أنْ ينقل جبلاً إلى جبل.
اللهمَّ ألاّ إذا… «وأعوذُ باللـه مِـنْ: «إلاّ إذا» كان الخلاف على هويـة لبنان الضائعة بين دوائر نفوس التاريخ ودوائر نفوس الدولة ودوائر نفوس القيادات.
على علمنا، أنّ الخلاف التاريخي حـول هويّـة لبنان قد حُسِمَ في دستور الطائف عبر معادلة: «لبنان عربي الهوية والإنتماء ووطـنٌ لجميع أبنائـه..»
فإذا كانت المشكلة التاريخية لا تـزال متأصلة في النفوس لا في النصوص فلم يبـقَ أمامنا إلاّ نصّ الآيـة من سورة الرعد:
«إنّ اللـهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهِمْ»
وإنْ لم يغيّروا، فقد تتغيّر عليهم العقوبات متأجّـجةً من جهنّم الشعب، لا من الشيطان الأكبر.