Site icon IMLebanon

اليوم التالي!

 

باتت سردية المسار الديموقراطي مثيرة للغثيان. وهي سردية لا تخصّ لبنان وحده، بل مسار لم ينتج سوى حزبين في الولايات المتحدة، ويمنع اليمين المتطرف من الفوز بانتخابات فرنسا مثلاً، ويحفظ الممالك التي تقول إن اهل البيعة تشاوروا وأبدوا آراءهم بديموقراطية قبل أن يثبتوا الملك… وقس على ذلك في كل أقاصي الأرض. وآخر تجارب المسار الديموقراطي ما حصل في باكستان أخيراً، حيث لم نسمع من أولياء أمر الديموقراطية موقفاً عمّا يجري مع عمران خان، كما لن نسمع منهم بالتأكيد شيئاً عمّا جرى في مصر، ويجري في السودان، الى آخر المشهد المملّ!

 

لدينا في لبنان ديموقراطية نموذجية! يمكن لفئة أن ترشح فلاناً لمنصب، وأن تسمّي فئة ثانية مرشحاً آخر، ثم يتداعى أهل الفهم والعلم، ويتنافسون بهدوءـ ويختارون واحداً من الاثنين، فيهبّ الجميع لاحترام النتيجة، ويذهبون الى منزل الفائز، وغداً يوم آخر.

لكن، لندع السذاجة جانباً. إذ لا ينفع الحديث هنا إلا مع من تبقّى من عقلاء القوم. وهؤلاء يمسكون فعلاً بمفاتيح الحرب والسلم في البلاد.

كل مسار لاعقلاني يقود الى فتنة لا عقل فيها. والحديث مع العقلاء، هدفه محدّد، والتنبيه فيه إيقاظ للعقل لا تهديد بالويل والثبور، لأن عظائم الأمور ماثلة أساساً لكل ذي عينين، إلا إذا افترض الناس أنّ الانهيار غير حاصل، وأن الدولة ليست مفكّكة. فمن يتحدثون عن رئيس إنقاذي يدركون أن الإنقاذ ليس مبادرة فردية، ولا قدرة جماعة بحدّ ذاتها، وأن من ارتضى بهذا النظام الطائفي البغيض عليه التقيّد بقواعد اللعبة فيه. فحقّ الفيتو ليس أمراً عابراً عندما يصدر عن جهة مؤثرة. والدليل على هذا أن من دعم ترشيح سليمان فرنجية يعرف أنه غير قادر على إيصاله الى الرئاسة إذا وضعت قوة وازنة الفيتو عليه، كما جرى مع الرئيس السابق ميشال عون الذي كان يحظى بتمثيل أوسع طائفياً ومناطقياً، ولم يكن ليصل الى الرئاسة لولا سقوط الفيتو من أيدي القوى التي تملك الحق فيه ربطاً بتركيبة النظام…

 

ثمّة سردية أخرى اسمها الفرض. ثنائي أمل وحزب الله يسعى الى فرض رئيس على اللبنانيين، وعلى المسيحيين خصوصاً. لكن ردّ الرافضين كان أننا سنفرض رئيساً على الثنائي وعلى بقية اللبنانيين. وعندما يحتسب هؤلاء الأصوات، لا يهتمّون حتى لوجود 20% من أعضاء البرلمان لا يدعمون هذا المرشح أو ذاك. إذا نجح حزب الله في استقطاب كتل نيابية الى صفّه وتمكّن من إيصال فرنجية، يكون قد فرض مرشحاً وخالف الأصول الديموقراطية، أما إذا نجحوا هم في حشد الأصوات الكافية لإيصال مرشحهم، فلا يمكن اعتبار رفض الآخرين إلا تصويتاً سلبياً في عملية ديموقراطية بحتة.

لذلك، قبل ساعات من «اليوم العظيم»، حيث يقوى التحشيد ساعة بعد ساعة، وتُشعل النيران في المواقد الطائفية والمذهبية، ويستعد الناس لتلقي صدمات جديدة، ينبغي مخاطبة قلّة قليلة من العقلاء، من بينهم المرشحون أنفسهم، لسؤالهم عن اليوم التالي: ماذا أنتم فاعلون، وهل تعتقدون حقاً بأن الأمور ستمرّ بهدوء، فيتعايش الجميع مع الحدث ويقبلون النتيجة كأمر واقع، وتنطلق عملية الإصلاح وما إلى ذلك من تخيّلات لا صلة لها بحقائق هذه البلاد؟

الفريق الرافض لفرنجية، وعلى رأسه التيار الوطني الحر، حجّته أن المرشح لا قِبل له بأيّ عملية إصلاحية تحتاج إليها البلاد، وأن حزب الله أخطأ ويخطئ لأنه يؤمن بفرنجية، ولأنه لم يضع حداً لحليفه نبيه بري، عدوّ الإصلاح والعائق أمامه برأي التيار.

لكن، هل يؤمن التيار نفسه بأن القوات اللبنانية تمثّل رافعة لعملية الإصلاح، أو أن الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، مدرسة في التغيير والتطور النوعي، أم أن نحو مئة عام من تجربة الكتائب، بكل صيغها، عنوان للازدهار والترقّي، أو أن حشد الانتهازيّين الذين أُحضروا الى الطاولة نفسها سيشكلون الصخرة التي تتكسر عليها كل محاولات منع بناء الدولة؟

 

ولنسأل جهاد أزعور نفسه: ألا يعرف، وهو من جرّب آليات الحكم في لبنان في ذروة الصدام السياسي الداخلي والانقسام على وجهة السياسات الإقليمية، أن قواعد اللعبة لم تتغيّر؟ هل يؤمن فعلاً بأنّ من يدعمون وصوله الى بعبدا هم مجرد وسيلة نقل، تنتهي مهمّتهم عند تولّيه الرئاسة، ويتركون له إدارة البلد كما يريد؟ وهل يصدّق، عندما يقول إنه لا يريد وزيراً ولا مديراً ولا موظفاً تابعاً له، أنه سيقدر على اختيار من يجلس في أي حكومة يبقى بيدها القرار النهائي في كل الأمور؟ وهل يعتقد بأن طريقة انتخابه هذه ستفتح له باب المجلس النيابي لمنحه صلاحيات استثنائيةأو يقرّ له صاغراً كلّ ما يفكر فيه من قوانين؟

 

 

أما في ما يتعلق بجنبلاط: ما الذي يورّثه لنجله تيمور غير ما راكمه من سياسات كارثية، جعلته طرفاً لا تبرز قوته إلا متى التحق بآخرين؟ وما الذي ينتظره لمساعدة القاعدة الاجتماعية التي يمثّلها، وهو الذي خبر خلال السنوات الأربع الماضية في أيّ قاع تعيش، وهل لديه ما يوقف الهجرة التي تهدد الوجود الفعلي لطائفته، أم أنه يعتقد بأن البلاد لا تزال منتجةً لصناديق المهجّرين وبطاقات الدعم من وزارة الصحة أو تجارات محظيّّة؟ وألا يعرف، بصفته خبيراً محلَّفاً في الحروب الأهلية، أنها بردت ولم تسقط أسبابها بعد، أم أنه يعتقد بإمكان العودة بالتاريخ الى لبنان الصغير الذي أنهته عقود التغييرات الهائلة التي أصابت العالم كله؟

 

هي مجرد ساعات فقط، لكي يحكّم من قرّر المواجهة العقل. أما من يعتقد بأن حكايات الأطفال عن النمل والفيلة قابلة للتطبيق، فلن يعرف الحقيقة إلا إذا نجح في إيقاظ الفيل من نومه. عندها، لن يكون للكلام معنى، ولا حتى للصراخ، فيما يتكسّر كل شيء من حولنا.

أما من يسأل عن مسؤولية الطرف الآخر، أي حزب الله وحركة أمل، فهي قائمة طوال الوقت. والحزب، على وجه الخصوص، يدفع يومياً ثمن عدم إقراره برنامجاً متكاملاً، سواء قرر الدخول الى الدولة أو البقاء خارجها، لذلك لم يعد بإمكانه الصمت حيال المسائل الكبرى التي تتعلّق بوجود لبنان، طالما أنه قرّر، مثل الآخرين، أن لبنان وطني نهائيّ.

مع الأسف، ساعات قليلة فقط، سيتعرّف الناس بعدها إلى حقيقة اليوم التالي لحفلة الجنون هذه!

 

من ملف : جلسة الرئيس الافتراضي