السياسة متحركة في تعريفها، لكن الاتجاهات المتعارضة لحركة السياسة تؤدي بها في كثير من الأحيان الى شلّها أو تجميدها أو تفريغ مؤسسة ممن يتولاها أو تجريدها من وظيفتها. وجدت الدساتير أساساً لتجاوز تعطيل حركة السياسة نفسها بنفسها بفعل اتجاهاتها المتعارضة، تماماً مثلما وجدت لتلافي احتكار شخص بعينه، أو فريقه بعينه السلطة، وتأميناً للتداول على السلطة، الذي يستقرّ، كي يكون مؤسساتياً وتراكمياً، على مبدأ الفصل بين السلطات.
الحاجة للتذكير بهذا اليوم هي الحاجة لاعادة الحركة الى السياسة في لبنان، واعادتها غير ممكنة من دون تجاوز الفراغ الرئاسي الذي بلغ حداً قصوياً وقاسياً للغاية على ما بقي من مؤسسات ومن وظائف تشتغل بشكل أو بآخر للدولة اللبنانية. في نفس الوقت، ليس هناك من مرجعية لتيسير الحركة مجدداً وتجاوز الشلل والتعطيل والجمود غير المنصوص عنه دستوراً. اعتبار ان هناك شيئاً بمثابة «ما فوق دستور» يشترط هذا المسار او ذاك في السياسة، او في تولية المناصب، ليس بالاعتبار الذي له رصيد دستوري، وليس بالاعتبار الذي يمكنه ان يخدم بث الروح في الحركة السياسية بالمطلق.
هناك فراغ رئاسي طال، وأي مبادرة لتجاوزه الآن تجد مسوّغها في وضع حد لهذا الفراغ قبل كل شيء آخر، لا أكثر ولا أقل، وإلغاء كل التباس ممكن حول الطرف الساعي وراء التمديد لهذا الفراغ كل هذه المدة او أكثر. المبادرة هنا تنطلق من تقديم ضرورة ملء الفراغ على مخاطر الامعان فيه، لكنها لا تعني او يجب ألا تعني التسليم بـ»أحقية» طرف دون آخر. الآن، كل الكلام حول أحقية زيد أو عمرو من الناس لا وجاهة فيها، انما الكلام الواقعي، القابل للتداول الجدي بشأنه، هو حول امكانية رسم خارطة عملية لوصول شخص الى تعبئة الفراغ، للانتقال بعدها لما هو مؤجل من استحقاقات، من جملتها قانون الانتخاب العتيد، والتأهب للانتخابات النيابية.
بالتوازي، ظهور هوية الطرف المعطل الرئيسي للاستحقاق الرئاسي منذ عامين ونصف العام لا يعني ان هذا الطرف، «حزب الله»، ليس لديه في السياسة من سبيل غير هذا التعطيل. القرائن بدأت ترسم ملمح تخيير جديد للبنانيين من طرف «حزب الله» بين مرّين: فإما حكومة بلا رئيس جمهورية، أو رئيس جمهورية بلا حكومة. وهذا أيضاً تخيير لا طاقة للبنانيين بعد عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي على تحمّله. أن يوضع حد للشغور، ويقلع العهد الجديد على صعيد تشكيل حكومة جديدة، وتأمين التوازن في السلطة التنفيذية، واعادة اعطاء سند للوظيفة التشريعية للمجلس النيابي، فهذا هو التحدي اليوم، وهو تحدّ لأن تجاوز الشغور وحده لا يكفله.
هل يعني ما تقدّم ان تجاوز الشغور زادت حظوظه في الأيام الأخيرة؟ الى حد ما، لكن من دون تجاوز أي من الحواجز الجدية التي تحول دون ذلك حتى الآن. فقط ما يوحي بتليينها جزئياً. العد التنازلي للجلسة المحددة لانتخاب رئيس يفرض نفسه أكثر فأكثر على مروحة الاتصالات المبذولة. اعادة الاعتبار للقالب «الدستوري» للأخذ والرد بهذا الشأن يعني أن الاتصالات هي بقصد حمل كل الكتل على الذهاب لجلسة التصويت، وتأمين نصاب، واذا كان متاحاً قبل ذلك ايضاح صورة من يتجه للفوز، لكن كل ذلك يفترض ان يترافق مع تشديد على ان ما قد يُبذل لإنهاء الجهود لا ينبغي ان تتأسس عليه معادلات صالحة لغير ذلك من الظروف والسياقات. واكثر، اذا ما كتب لمحنة الفراغ ان يوضع لها حد في القريب، فان النقاش حول كيفية تلافيها بعد ذلك سيكون كلي الراهنية بعد ذلك مباشرة.
نحن امام اول موعد جلسة نيابية محدد لانتخاب رئيس يأخذ كل هذا الكم من الجدية والحيوية السياسية حوله، حيوية بقصد اعادة تحريك المياه السياسية الراكدة اساساً. لكن الجزم بأن الأمور قد انفرجت من الآن غير واقعي. بقدر ما تفهم جميع الاطراف، اقله ضمنيا، بأن المسألة ليست تفضيل شخص على آخر بالمطلق، ولا الاعتراف بحق ثابت ومحفوظ لشخص دون آخر، بل هي مسألة وضع حد للفراغ بأي مخرج يمكن الوصول اليه لاجل ذلك، وبقدر ما تعي الاطراف بأن المطلوب الانتقال لوضع «اقرب للمجال الدستوري»، اي فيه رئيس وفيه حكومة وفيه تحضير لقانون انتخاب ولانتخابات، وليس فيه رئيس من دون حكومة ومن دون طريق مفتوحة لقانون الانتخاب، بقدر ما ان الجانب المحلي من الطبخة يمكن أن تؤمن عناصره. يبقى الجانب الاجنبي من هذه الطبخة، في وقت يزداد الانشغال بالمشهدية الانتخابية الاميركية الصاخبة، بما قد يوجد ميلاً لانتظار نتيجة الاستحقاق الاميركي للبناء عليه سلباً وايجاباً في شتى الملفات الحارة الشرق اوسطية.