Site icon IMLebanon

  «خطاب القسم» من الهراوي إلى عون

حكاية خطاب القسم غير جديرة بأن تُروى أو تقرأ. هي جديرة بالإهمال. تُليت علينا بالفخامة المطلوبة، ثم طُويت لتُحفظ في أرشيف النسيان. تنتسب الخطابات السالفة إلى نسل «الكلام على عواهنه». ثرثرة ببلاغة ينقصها الصدق. كُتبت لتتلى في طقس التنصيب بعد الانتخاب، لتليق بالمقام، علماً أنها تخاطب شعباً مفترضاً، وتعِدُه بأفعال وإنجازات. تُليت مراراً، ولم يعتذر أحد بعد ذلك. فالقَسَم شيء والوفاء ليس من عادات هذا القوم أبداً.

اليوم، سيبدأ طقس الخطاب. الجنرال يختلف عن سابقيه. هو رئيس مع سابق إصرار وتصميم وعناد. فاتته الرئاسة مراراً. طُرد منها بالقوة والنفي والإبعاد والاستبعاد. ناخبوه، «شعب لبنان العظيم». لم يستطع صرف هذا الرصيد. الشعب في لبنان ممنوع. ثم دار الزمن دورته، بكل أثقاله وفداحاته ونكوصه. لم يتحقق إلا الأسوأ. وفي هذا الزمن الأسوأ، سنصغي إلى خطاب قَسَم مختلف ربما، لكن المشهد الذي نسجته التسوية الجامعة لقادة الارتكاب على مدى سنوات، والواعدة بالتقاسم الفجّ للمسؤوليات، تُحرم اللبنانيين من إمكانية تصديق الوعود. والأدلة كثيرة.

تنتمي خطب القَسَم، إلى «كان يا ما كان». الرئيس الياس الهراوي حَلَف بالله العظيم على أنه سيحترم «دستور الأمة اللبنانية وقوانينها، (ويحفظ) استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه». صفّق الحاضرون. ثم حضر النسيان وأخذ الجميع إلى الواقع. خطاب القَسَم، بعد المذبحة اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً، حفل بما يلي:

«خيار اللبنانيين بين دويلات الطوائف المتنافرة والضعيفة، وبين الدولة الواحدة القوية الجامعة التي تعزز الانتماء الوطني على حساب الانتماء الطائفي… وقد اخترنا باسمهم الدولة الواحدة التي تضمّ العائلات الروحية المتنوعة في إطار الوحدة الوطنية الشاملة والصحيحة… لقد اخترنا، باسمهم (اللبنانيين) دولة سيادة القانون…».

وجاء في الخطاب أيضاً، ما يقشعرّ له الغضب:

«وخيار اللبنانيين بين دولة تقوم على الأخلاق والكفاءة وبين دولة تقوم على المحسوبية وانعدام الأخلاق، اخترنا باسمهم، دولة الأخلاق».

مَنْ يتجرّأ على تصديق ذلك؟ مَن يتسامح مع هذا الكلام؟ أو مَن يستطيع إكمال قراءة المقطع الثاني من القَسَم؟

«وخيار اللبنانيين بين دولة المؤسسات الحديثة ذات الصلاحيات الواضحة والمسؤوليات الناتجة عنها، بحيث يطال القانون كلّ اللبنانيين مهما علا شأنهم، وبين الدولة السائبة… فلا مَن يحاسب أو يعاقب، مما يجعل المقدَّسات الوطنية والأموال العامة وحقوق المواطنين عرضة لكل طامع وفاسد… لقد اخترنا باسمهم، دولة المؤسسات».

لم يبق من الدولة إلا التسيّب، أما المؤسسات فحدِّث ولا تخجل من القسوة في إطلاق الأحكام.

لَيتهم ينهون عهودهم، بخطاب الحساب. كل ما تعهّد به العهد، والعهود التالية، كان نقضاً للعهد. إنشاء يفترض تأديته، بلا ضوابط الصدقية. أبشع ما تعهّدوا به، العدالة الاجتماعية: «وخيار اللبنانيين بين دولة تحقق العدالة الاجتماعية الشاملة على أساس الإنماء المتوازن للمناطق، وبين دولة الحرمان والإجحاف والتمييز بين المواطنين، اخترنا باسمهم دولة العدالة».

كفى. إن هذا القليل، يثير الكثير من الغضب. ولا مَن يحاسب، علماً أن مسؤولية العهد ليست مسؤولية الرئيس، بل مسؤولية الحكومات والممسك بقراراتها، بقوة النفوذ والمال والطائفة والدعم الخارجي.

الرئيس إميل لحود، برغم الضعف اللغوي، ألقى خطاباً بليغاً. غيره تمتّع بالكتابة. اللبنانيون أنعم عليهم بالنسيان. الفارق بين القَسَم والممارسة، يقارب المسافة بين دولة القانون واللادولة. جاء في خطاب القسم «إن رأس الدولة تحت القانون، فلا يعود لأحد غيره أن يكون فوق القانون… سأكون تحت القانون، ولا مستقبل لأحد في هذا البلد، حاكماً أو محكوماً، إلا بقيام دولة القانون».

وتساءل في متن الخطاب عما يريده اللبنانيون، «يريد الناس منّا نحن الحكام والمسؤولين أن نحترم تمثيلهم، في كل ما نقول وقولنا مسؤول. هم يريدون وعن حق، قضاء منزّهاً مستقلاً عن أنواع التدخلات والتأثيرات كافة في أشخاصه وأحكامه، قضاءً يحسب حسابه الكبير كما الصغير. ويريدون إدارة تخضع لرقابة صارمة وتتميز بالكفاءة والنظافة، يديرها مسؤولون يكتسبون الحصانة من حسن الممارسة، لا من قوة الحماية السياسية والطائفية. يريدون إدارة يشترون منها الخدمات بالضريبة وليس بالرشوة والضريبة».

يمكن تنسيب هذا الكلام الفائق إلى المدينة الفاضلة أو إلى جمهورية أفلاطون. ومعيب أن يكون مرجعاً لجمهورية الموز اللبنانية، أو لحراس المزرعة المنهوبة. النيات شيء والممارسة شيء آخر. الرغبة أمرٌ والتحقق أمرٌ آخر. أما نظام المكافأة والعقوبة، فلا ينتمي إلى دولة قامت على عقيدة الفساد. جميل أن تسمع كلاماً حاسماً، يليق بالنظام العسكري الذي يطبّق داخل الجندية. «حق اللبنانيين، وقبل كل شيء آخر، أن يروا كيف يُكافَأ الحريص والموفر وأن يروا كيف تُقطع يد السارق أياً كان، والمهدر والمرتشي والمنتفع».

لا دولة قانون ولا دولة مؤسسات ولا حساب أو عقاب أو مكافأة. هذا هو لبنان، يتناوبون عليه، جماعياً، حتى بلغ ميشال سليمان فأضحى رئيساً، في فلتة إقليمية وتخلٍّ داخلي. وللرئيس سليمان خطاب قَسَم أيضاً، تحدّث فيه «عن الأيادي البيضاء التي تشكل سمة العدل، وتعزيز الهيئات الرقابية ليكافأ المستحِقّ ويصوّب المقصر ويُعزَل الفاسد». هل نكمل النص، أم نكتفي بهذه الجرعة من التهتّك، كي لا نبلغ ما يدعو إليه، من تعميم الثقافة البيئية والإنماء المتوازن والإصلاح التربوي إلى آخر ما لا يُطاق سماعه أو قراءته.

هذا هو حظ اللبنانيين من العهود الثلاثة التي عصفت بكيانهم. واليوم، يفتتح لبنان طريقاً، يسلكه كل الذين ساهموا في حكومات وعهود الرئاسات الثلاث… لا جديد في لبنان. من زمان توقّف لبنان، عن أن يكون للبنانيين. اختصروه. كل كلام عن «شعب لبنان العظيم»، هو من باب التهريج الديموقراطي.

خطاب القَسَم اليوم، هل سيكون مختلفاً؟

من المرجَّح أن اللغة ستختلف، أما المضمون، فلا حول ولا قوة.