كل المعلومات المتقاطعة تؤكد أنّ المبادرة الرئاسية بترشيح النائب سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية جمِّدت حتى إشعار آخر، ومن الصعوبة بمكان إعادة تحريكها وإنعاشها قبل معالجة الاعتراض الحزبي الرباعي المتمثّل بـ«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» و«الكتائب». وبالتالي هل ستنجح المساعي بمعالجة هذا الاعتراض، والسؤال الأهم هل عاد الملف الرئاسي إلى المربّع الأول؟
لا مؤشرات تُوحي بإمكان تراجع العماد ميشال عون عن ترشيحه، ولا عن فك «حزب الله» موقفه عن موقف عون، ولا عن نية «القوات» و «الكتائب» التراجع عن شروطهما السياسية بدعم ترشيح كل من يقترب من ثوابتهما الوطنية، ما يعني أنّ هذا الانتخاب ما زال يفتقد للنصاب الدستوري والميثاقي والسياسي، وبالتالي دخوله في الثلّاجة حتى إشعار آخر.
وفي موازاة صعوبة حلحلة العقد الموجودة، تبيّن أنّ وضع المبادرة في خانة الاتفاق السعودي – الإيراني لا يتعدّى الترويج السياسي من أجل تسهيل تمريرها وتسريعه، فيما لا اتفاق بين العاصمتين على أي ملف، بل الأمور ذاهبة أكثر فأكثر نحو التدهور والتصعيد، وبالتالي لا غطاء إقليمياً لهذه المبادرة على غرار تأليف الحكومة، ما يفقدها أهم ركيزة لترجمتها إلى واقع، لأنه من دون مظلة سعودية – إيرانية يصعب الكلام عن تسوية رئاسية.
وفي ظل غياب الاندفاعة الداخلية والخارجية – الإقليمية تكون المبادرة الرئاسية وضعت على الرف، ويتوقف إنزالها عن الرف على ثلاثة عوامل:
التفاهم السعودي-الإيراني، إعطاء «حزب الله» الضوء الأخضر، انفراط الجبهة المسيحية الثلاثية، وفي ما يتعدى ذلك لا يمكن الحديث عن تسييل المبادرة، بل جلّ ما تبقّى منها أنّ فرنجية قفز إلى مرتبة المرشحين الأساسيين متقدماً حتّى على عون في ظلّ حيازته على تأييد «المستقبل» و «الاشتراكي» وعدم ممانعة فريقه السياسي الذي يشترط أن تكون الرابية معبره إلى بعبدا.
وفي ما يختصّ بالمجتمع الدولي لا يمكن الرهان كثيراً على قدرته على الضغط من أجل إنهاء الفراغ لسبب بسيط وهو أنّ أولويته في مكان آخر، وإنّ أقصى ما يمكن ان يؤديه من دور هو تلقّف أي مبادرة والمساعدة على ترجمتها، انطلاقاً من حرصه على الاستقرار في لبنان، وتخوّفه من مؤديات الفراغ على الاستقرار الأمني.
ولكن المجتمع الدولي، وتحديداً واشنطن تتخوّف من أن تشكّل الانتخابات الرئاسية مدخلاً لعدم الاستقرار السياسي الذي يؤدي بدوره إلى هزّ الاستقرار الأمني، فيما الوضع الحالي على كارثيته يبقى أفضل من انتخابات تعيد تسعير الصراع السياسي.
وبالتالي، إمّا ان تشكل الانتخابات مدخلاً للاستقرار أو من الأفضل تجنّبها، فضلاً عن أنّ المجتمع الدولي الذي يعتبر انّ طهران أصبحت تحت سقف الشرعية الدولية ينصح بعدم انتخاب أي شخصية لا تلتزم بسقف هذه الشرعية بدءاً من القرارين ١٥٥٩ و١٧٠١ وصولاً الى المحكمة الدولية.
وأمّا الكلام عن أنّ الدينامية الرئاسية التي انطلقت مع المبادرة الرئاسية لا يمكن وقفها بعد اليوم، فهو لا يستند إلى وقائع عملية، لأنّ أيّ دينامية يفترض ان تستند إلى معطيات محلية وإقليمية ودولية، وبالتالي في غياب هذه المعطيات تكون هذه الدينامية قد انتهت وتوقفت وليس فقط تفَرملت، وأي دينامية أخرى ستنطلق مستقبلاً سترتكز إلى معطيات جديدة ومقاربة مختلفة، وتحمل معها ترشيحات جديدة.
فللمبادرة الأخيرة سقف سياسي وزمني، وفي حال لم تتمكن من تجاوز اعتراض الثلاثي المسيحي و»حزب الله» في مدى زمني محدّد يعني انتهاء مفعولها، ولا يمكن إنعاشها مستقبلاً، لأنّ طرحها جاء في لحظة سياسية معينة، وبناء على معطيات محددة، ومجرد تبدّل اللحظة والمعطيات يعني نهايتها.
وعلى رغم أنّ تقدّم ترشيح فرنجية أنعشَ ترشيح عون الذي كان دخل ترشيحه في المجهول الذي يستدعي لتعويمه وضع كل القوى أمام الحائط المسدود بغية الاختيار بينه وبين فرنجية، إنما لا يبدو انّ الأمور ستسلك هذا الاتجاه، حيث أنّ الترشيحين دخلا عملياً من ضمن لائحة الترشيحات المعلّقة التي تتطلب ظروفاً لن تأتي، لأنّ كل الجهد سيتركز محلياً وخارجياً على قطع الطريق مستقبلاً أمام أي ترشيحات لا تعكس ميزان القوى الحقيقي وتؤدي في حال نجاحها إلى تغليب طرف على آخر.
فلولا مبادرة الحريري باتجاه فرنجية لَما كانت فكرة ترشيح فرنجية واردة كمجرد فكرة. فـ«القوات» وقّعت مع «التيار الوطني الحر» ورقة «إعلان نوايا»، وعلى رغم ذلك رفض رئيسها ترشيح عون إلّا في حال اقترابه سياسياً من طروحات «القوات»، لأنّ موقع رئاسة الجمهورية الذي تخاض من أجله المعارك منذ أكثر من سنتين ليس تفصيلاً في البنيان المؤسساتي.
وبالتالي، تقديمها على طبق من ذهب للفريق الآخر ومن دون أي مسوغات سياسية منطقية، يشكّل تخلياً عن مشروع سياسي متكامل، ومنح المشروع الآخر جوائز ترضية تمكّنه من تعزيز مشروعه داخل الدولة.
وعدا عن كل ذلك أظهرت المبادرة وجود ارتجالية سياسية تستند الى النيّات لا الضمانات، هذه الضمانات التي لا يمكن الحصول عليها إلّا في ظل وجود ميزان قوى متعادل، ومن هنا الرئيس التوافقي ينجح في إدارة عهده بالاتكاء على هذا الميزان الذي يشكل بدوره شرطاً إلزامياً لإدارة توافقية.
وانطلاقاً من كل ما تقدّم يمكن القول إنّ المبادرة الرئاسية انتهت، بمعزل عن استمرار الحراك المتصل حولها، وفي ضوء ذلك عادت البلاد إلى المرحلة التي سبقت هذه المبادرة، أي إلى مرحلة الفراغ الذي سيطول ويعاد ربطه مجدداً بالأزمة السورية والحلول المؤجلة في المنطقة على إيقاع مؤتمر فيينا والتفاهمات السعودية – الإيرانية التي لم تبدأ بعد.
فكل ما حصل في الأسبوعين المنصرمين كان مجرّد محاولة لفصل انتخاب الرئيس عن الملفات العالقة في المنطقة، إنما هذا الفصل لم ينجح لاعتبارات تتعلق بـ«حزب الله» من جهة، والقوى الحزبية المسيحية من جهة أخرى، ولكن ما يجدر تسجيله أنّ هذا الفصل لم يكن على قاعدة تحييد لبنان أو على قواعد سياسية واضحة، إنما كان على أساس مزيد من ربط لبنان بأزمات المنطقة من بوّابة رئاسة الجمهورية وما يمكن أن تستجلبه من تداعيات على لبنان.