IMLebanon

“الشغور الرئاسي”: تعطيل صلاحيات الرئيس والحكومة معاً

 

في ضوء السباق المحموم بين المساعي المبذولة من أجل تشكيل الحكومة الجديدة وقرب دخول البلاد مدار المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية تتعدّد السيناريوهات على اكثر من مستوى. وأكثرها تشاؤماً، تلك التي تتحدث عن عدم قدرة المنظومة على مواجهة الاستحقاقين، وهو ما سيؤدي عند تسلّم الحكومة لصلاحيات الرئيس إلى تعطيل صلاحيات الرئيس والحكومة معاً. فكيف السبيل إلى هذه المعادلة؟ وما الذي يبررها؟

على وقع النقاش الغامض والملتبس حول أسباب تعثر تشكيل حكومة جديدة، تتطلع الأنظار، عند بحثها عن الأسباب الجوهرية التي حالت دون التفاهم على تشكيلة حكومية جديدة، إلى وضع ما يجري في اكثر من سياق. وطالما انّ المناقشات الجارية في الأروقة الرئاسية والصالونات المقفلة، فستبقى الاسئلة المطروحة بلا أجوبة. وإلى الأسباب المتعددة، فإنّ من بينها الحجة التي تتحدث عن الوقت القصير المتبقي من نهاية ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وعدم الحاجة إلى حكومة تدير الايام الفاصلة عن31 تشرين الأول.

 

وإن كانت هناك أسباب أخرى تتصل بتوزيع الحقائب وإجراء مداورة محدودة كما اقترحها الرئيس المكلّف ورفضها رئيس الجمهورية، فإنّ من الاقتناعات التي لم تتزعزع بعد، انّ التوازنات التي وفّرتها التركيبة الحكومية الحالية ما زالت صالحة، وانّ ما طرحه الرئيس المكلّف بنحو غير مسبوق غداة الانتهاء من استشاراته النيابية غير الملزمة بساعات قليلة، مسّت بها وضربتها بطريقة جزئية. فالمداورة التي اعتمدها في شأن مصير وزراء الطاقة وشؤون المهجرين والاقتصاد، ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد، لكن أكبرها شكّل تحدّياً لا يتحمّله رئيس الجمهورية ورئيس «التيار الوطني الحر». وأياً كانت الظروف المختلفة التي قادت إلى كل منها على حدة، فإنّها باتت محور مناقشات عقيمة لا يمكن ان تؤدي إلى أي مخرج إن بقيت المواقف المتصلبة على حالها، فهي لا تلتقي على أي نقطة مشتركة.

 

وإن بقي الوضع على حاله من المراوحة وسط غياب أي من الوسطاء الجدّيين، فإنّه مرشح إلى مزيد من المراوحة في مرحلة هي الأخطر، بعد أن تنامت الأزمات وتناسلت واحدة بعد أخرى، إلى ان شملت مختلف وجوه حياة اللبنانيين وباتت تهدّد مصير الدولة ومؤسساتها إن لم تمسّ كيانها في أي وقت، إن تطورت الامور السلبية لتطاول قطاعات حيوية أبعد من الجهاز الإداري للدولة اللبنانية المضرب، وسط أزمة مالية خانقة لا يعرف أي من الباحثين عن حلّ لها توصيف أي قرار يمكن ان يُتخذ في ظلّ فقدان القرار السياسي والفوارق التي تميز بين اللبنانيين لجهة تحمّل تبعاتها وما يمكن ان تقود اليه نتيجة ندرة المواد الغذائية والأدوية والمحروقات إلى درجة باتت تهدّد مختلف القطاعات الحيوية، وبلغت حدّ إقفال مقر مجلس النواب بسبب فقدان المازوت الكافي لتشغيل مولّداته.

 

وعليه، فإنّ المخاوف الجدّية التي برزت في الأيام القليلة الماضية مردّها إلى الحديث عن احتمال فقدان المواد الغذائية وعدم قدرة الشركات على استيراد المحروقات على أنواعها وازدياد التوجّه إلى دولرة الاقتصاد حتى بلوغه قطاع الخدمات والتجارة بالتجزئة وصولاً إلى ربطة الخبز بعد المحروقات والغاز والزيوت، الامر الذي يقود إلى عدم قدرة فئة كبيرة من العائلات على الصمود تجاه ما هو مطلوب لسدّ رمقها اليومي، في وقت لم يلتفت المكلّفون معالجة الأزمات الكبرى إلى مثل هذه المحطات المصيرية التي باتت على الابواب، وقد لا تفصل بينها وبين ما هو قائم اليوم اكثر من شهرين او ثلاثة ليحصل الارتطام الكبير، في ظل فقدان الدولة لمقدرات مطلوبة بالحدّ الأدنى لاستمرار وجودها.

 

وإلى هذه المخاوف على القطاعات الحيوية، هناك من يخشى ان تطاول الأزمة القوى العسكرية والأمنية التي ما زالت العمود الفقري للسلم الهش الذي تعيشه البلاد، في ظلّ فقدان الأمن الغذائي والدوائي والطاقوي، وصولاً إلى أبسط الخدمات الاجتماعية التي باتت نادرة الوجود لو لم تقم بعض المؤسسات والجمعيات مكان الدولة في توفير البعض منها والتي لا تغني فقيراً ولا تشبع جائعاً إن تقلّصت برامج المساعدات الخارجية إلى لبنان والتي تهدّدها الأزمات الغذائية الدولية وحجم أزمات النازحين التي تشهدها أوروبا، إضافة إلى ما يمكن ان تؤدي اليه الدعوات إلى الإغلاق الدولي إن تفشت المتحورات الجديدة للأوبئة، إلى درجة تعيد المخاوف التي تسببت بها جائحة كورونا، والنقص الحاصل في إمدادات الغاز والنفط والحبوب في ظل تطور العقوبات على روسيا وقراراتها بوقف إمداداتها من طرف واحد عبر الأراضي الاوكرانية.

 

والأخطر من كل ذلك، يعترف العارفون بكثير مما يدور النقاش حوله في شأن الحكومة الجديدة وانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، انّ كل هذه المعطيات ليست في حساب الساعين إلى قطاف المغانم نتيجة التطورات الإقليمية والدولية لاحتساب بعض من هم في الداخل، انّ هناك خاسراً ومنتصراً على المستويين الإقليمي والدولي، إلى ان تصل البلاد إلى الانهيار الكبير وما سيرافقه من فلتان بدأت بعض المناطق تعاني من بوادره الخطيرة، ما لم يستوِ النقاش سعياً إلى تسهيل عبور الاستحقاقين الحكومي والرئاسي معاً. مع العلم انّ الرأي المستقيم يقول انّ توفير الظروف المؤدية إلى الاستحقاق الرئاسي تبقى أهم بكثير من الاستحقاق الحكومي، وانّ في إمكان الرئيس العتيد للجمهورية ان يستوعب الأزمة الحكومية مخافة الوقوع مرة اخرى في حال الشغور الرئاسي الذي يهدّد الجميع في آن.

 

وما يزيد في الطين بلّة، تراجع العناية الدولية بالإستحقاقين معاً، إلى الدرجة الدنيا. لكن ما هو مأمول، هو ان يستدرج الإستحقاق الرئاسي الاهتمام الدولي مرة اخرى، وخصوصاً انّ بعض المبادرات الدولية والإقليمية تنتظر نهاية العهد الحالي لتعود الى الضوء و بالزخم المطلوب. فقد استنفدت كل المبادرات الخارجية للنأي بلبنان عن أزمات المنطقة واستعادة حياده المحدود الذي كان قائماً من قبل بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان وبلوغ المرحلة التي لا يمكن فيها إعادة تركيب البلد وبناء ما هو واجب من تعاون بين سلطاته. والأخطر، انّها تحولت مواقع محصنة لكل فريق، وباعد انقطاع الاتصالات بينها إلى حالات من العزل يعيشونها بدرجة مخيفة، يدفع ثمنها المواطنون من جميع مذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم على حدّ سواء.

 

والأخطر من كل ذلك، ان تفشل كل المساعي لتأليف حكومة جديدة، ويضاف اليها مسلسل الفشل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فتنتقل سلطاته الى الحكومة، سواء كانت لتصريف الاعمال او بكل مواصفاتها الدستورية لا فارق، وهي مرحلة تفتقد فيها صلاحيات الرئيس والحكومة معاً، لتقع بين فكي اكثر من مجموعة لم تشبع بعد من نهش لبنان وماليته ومصالح شعبه، إلى حدود ترجمة فشلها إلى ما تبقّى من مظاهر الدولة ومؤسساتها وخيراتها.