IMLebanon

1075 يوم تعطيل: أزمة “لا نظام” في انتخاب رئيس الجمهوريّة

 

منذ يوم 31 تشرين الأول، دخل لبنان مجدّداً في مرحلة شغور رئاسي، وهي الثالثة منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005. وبهذا، أصبح الشغور أقرب الى القاعدة منه إلى الاستثناء. بين خروج اميل لحوّد من القصر الجمهوري في العام 2007، وانتخاب ميشيل سليمان عقب اتّفاق الدوحة في العام 2008، 180 يوماً من الشغور. أما بين خروج الرئيس سليمان في 2014 وانتخاب العماد عون في 2016، 880 يوماً من الشغور.

 

أي أنَّ مجموع الأيام التي قضاها وعاشها لبنان من دون رئيس للجمهوريّة منذ العام 2005، بلغ حتّى الآن 1075 يوماً. والآن، يتسابق المحلّلون على تقدير مدّة الشغور الرئاسي الحالي، متحدّثين بشكل شبه طبيعي عن فترة تتراوح ما بين عدّة شهور وصولاً إلى عدّة سنوات، بانتظار ما يسمّى «نضوج التسوية».

 

أما أسباب الشغور المتكرّر، فمنهم من ينسبه إلى طبيعة موازين قوى، أو عوامل «جيو-استراتيجيّة»، أو «الانقسام العمودي». لكن الاعتقاد السائد الذي عمل على ترسيخه جزء من اليسار الأيديولوجي الساذج والمتحجر فكرياً، مدعوماً من «مفكّرين» مرتبطين بما يسمى «الثنائي الشيعي»، لهم مصلحة استراتيجيّة في قلب المفاهيم، وهو أنَّ لبنان يعاني من «أزمة نظام» تؤدّي على الدوام، إلى تعطيل العمليّة السياسيّة.

 

بطبيعة الحال، لم يطرح طيلة خمسة عشر عاماً أيٌّ من هؤلاء «المفكّرين»، أيّ فكرة عمليّة مفيدة لكيفيّة حلّ أزمة النظام هذه. ما هو التعديل الذي يمكننا إدخاله على المادة 49 من الدستور حتى تحلّ أزمة النظام الموضعيّة هذه؟ لا أحد يعلم. ذلك مردّه ببساطة إلى أنْ لا أزمة نظام في لبنان، بل أزمة لا نظام، والشغور المتكرّر في رئاسة الدولة مثال على ذلك. كما يترافق التعطيل الرئاسي مع تعطيل حكومي، حيث أننا اليوم بتنا أمام 3150 يوماً من دون حكومة مكتملة الصلاحيات منذ العام 2005.

 

في الحالتين، نجد بأنّ القاعدة هي نفسها: يمسك «حزب الله» بحقّ فيتو (لا دستوري) مكتسب بقوّة الترهيب بالسلاح غير الشرعي، و يفسّر المقتضيات الدستوريّة على قياس تقدير مجلس شورى الحزب لضرورات المرحلة.

 

في العام 2007، هدّد «الحزب» نواب الأكثرية النيابيّة، الذين كانوا يتحدثون عن حق انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة، فارضاً منطق «التوافق»، فكان انتخاب الرئيس سليمان بعد أحداث 7 أيار. في العام 2014، أعلن «الحزب» – المتيقّن من تقدّم وضعيّته اللبنانيّة بعد تفكّك عقد القوى السياديّة – أنّه لن يتم انتخاب رئيس للجمهوريّة غير حليفه العماد عون. عبّر الحزب بشخص أمينه العام عن «معايير رئاسيّة» ملزمة «ميثاقياً» ، كالتمثيل للأقوى مسيحياً، وهو معيارٌ اختفى بطبيعة الحال عند تفوّق «القوات اللبنانيّة» على «التيار الوطنيّ الحرّ» في الانتخابات الأخيرة.

 

خضعت الاغلبيّة النيابيّة للابتزاز تحت شعار «تفادي الانهيار» عام 2016. اليوم يقف «الحزب» محاصراً بخسارته للانتخابات النيابيّة عام 2022 (أو على الأقل عدم فوزه بها كما العام 2018)، وحريصاً على عدم الظهور بمظهر المتحكم بمفاصل السلطة نظراً للانهيار الاقتصادي. و قد بدا ذلك جليّا عند تهديد «حزب الله» للممتنعين عن المشاركة بالحكومة بانّهم «سيدفعون الثمن»، وهذا، يُعتبرُ سابقة عالمية يهدّد فيها حزب في السلطة أحزاباً معارضة لرفضهم المشاركة بالحكم. بقي الهدف إيصال رئيس يمثّل إرادة الأقليّة النيابيّة، لكن عن طريق «التفاهم» وليس الفرض المفضوح كما كانت الحال مع العماد عون.

 

أقلية حزبية تفرض إرادتها

 

اذاً، «لا نظام» في مسألة انتخاب الرئيس منذ العام 2005، بل فرضٌ لإرادة أقليّة حزبيّة بنسب ومعايير ومفاهيم مختلفة تخضع حصراً لقراءة قيادة «حزب الله». لكنّ النقاش في نظريّة أزمة النظام المفترضة وسنوات التعطيل الرئاسي تحتاج إلى مراجعتين دقيقتين ومفصليّتين: الأولى في طبيعة النص الدستوري وروحيّته، والثانية في العرف الدستوري المتمثّل في الممارسة السياسيّة القائمة منذ العام 1934 في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانيّة.

 

يصطّف بعض الخبراء الدستوريين في منتصف الطريق بين فتاوى «الثلثين» وفتاوى «النصف زائداً واحداً» بالادّعاء أن النصّ الدستوري مبهم في ما يخص انتخاب الرئيس، لكنّ هذه النظريّة لا تستند بتاتاً إلى فهم شامل لنصّ المادة 49 وخلفيّاتها الفلسفيّة والمقارنتيّة. فالنص واضح جداً وحرفيّته أنّ رئیس الجمهوریة ينتخب «بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ویكتفيى بالغالبیة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي». وهنا يتّضح من النص وجود لغط كبير (ومتعمّد) في التعاطي مع المادة الدستوريّة عبر إيجاد مفهومين لم يأت النص الدستوري على ذكرهما أبداً: «النصاب الدستوري» و»الدورة الثانية». لا ذكر للنصاب في المادة 49 (بينما تذكر المادة 65 النصاب لانعقاد مجلس الوزراء) وذلك عن قصد، لآنه لزوم ما لا يلزم، فالثُلُثَان، يحتاج إلى نصاب الثلثين، والأغلبية المطلقة إلى نصاب الأغلبية المطلقة. كما أنّه لا «دورة ثانية» (من بعدها نعاود الكرّة من الصفر!) بل دورات «تلي» الدورة الأولى، على فرض أنّ «التوافق» على رئيس يحصل على أغلبية مطلقة قد يحتاج إلى دورات متتالية في دولة فيها تعدّد حزبي.

 

ولعلَّ أبرز مثال تاريخي حديث، لتعدّد الدورات، كان انتخاب رئيس لفرنسا خلال جمهوريّتها الرابعة عام 1953، حيث تطلّب الأمر 13 دورة متتالية حتّي حصل مرشّح يمين الوسط رونيه كوتي على 54% من الأصوات. كما أنّ الدستور اللبناني لم «يخترع الذرّة» في آلية انتخاب الرئيس، بل استنسخ النظام المتّبع في معظم الدول التي ينتخب فيها الرئيس من مجلس النواب: ففي إيطاليا، يحتاج الرئيس في أوّل ثلاث دورات إلى الثلثين، ويكتفى بالأغلبية المطلقة في الدورات التي تلي. في المانيا وإسرائيل، يحتاج الرئيس إلى الاغلبيّة المطلقة في الدورتين الأولى والثانية، ويكتفي بالعدد الأكبر من النواب (plurality) في الدورات التي تلي.

 

هذا في النصّ، أمّا في الروحيّة، فالرغبة بتشجيع انتخاب رئيس بالثلثين مردّه إلى ارسال إشارة «ميثاقيّة» إلى مجلس النواب، كي لا تنتخبَ أكثريةٌ مسلمةٌ صَرْف، الرئيس المسيحي. الهدف الدستوري هو نفسه في العراق، بحيث يحدّد النص أغلبيةَ ثلثين في الدورة الأولى لانتخاب الرئيس الكردي، كي يشجّع النواب العرب سنّة وشيعة على عدم فرض رئيس على المكون الكردي (شمال ايرلندا وضعت في النص ضرورة انتخاب 40% من نواب كلّ طائفة لرئيس الحكومة). لكن في لبنان كما في العراق، لم تكن المقاطعة من أغلبية نواب الطرف الذي صُمِّمَ النص الدستوري من أجله.

 

8 رؤساء جمهورية في موعدهم

 

بين العام 1943 والعام 1982، إنتُخِبَ 8 رؤساء للجمهوريّة اللبنانيّة. وكانت الفقرة من المادة 49 المتعلّقة بانتخاب رئيس هي نفسها. و كان رئيس الجمهوريّة يملك (أقله بالنصِّ) صلاحيات شبه مطلقة. وكانت الأزمات الاقليميّة تُعدُّ ولا تحصى، من الحروب العربيّة – الاسرائيليّة في 1956 و1967 و1973 إلى الحرب اللبنانيّة نفسها في العام 1975. ولكنّ الرؤساء الثمانية انتُخبوا في الموعد الدستوري (تأخّر انتخاب شمعون 4 أيام ما اعتبر أزمة وطنيّة كبرى!)، ولم يكن هناك لا تعطيل للنصاب ولا «أزمة نظام». حتّى خلال «الحرب الاهليّة المصغّرة» في العام 1958، لم يكن هناك أيُّ يومِ فراغٍ بين ولايتيّ الرئيسيْن كميل شمعون وفؤاد شهاب.

 

و الأهم هو أنّه حينما كان يتعذّر التوافق، حلّت المنافسة الدمقراطية الطبيعيّة: فاز سليمان فرنجيّة على مرشّح النهج الشهابي الياس سركيس بصوت واحد في العام 1970، بينما كان «الانقسام العمودي» في لبنان على أوجّه، و منظّمة التحرير في بيروت، والحرب على الأبواب! إذاً لماذا لم يعمد النواب المؤيدون لانتخاب الياس سركيس إلى مقاطعة الجلسات وتعطيل النصاب المفترض؟ لأنه ببساطة كان هناك في لبنان «نظام»، بغض النظر عن الملاحظات عليه. اليوم، بينما يشكو البعض من ضعف صلاحيّات الرئيس، يتعطّل انتخابه لسنوات عديدة إلى أن يتم «التوافق» على القبول بفرضه من قبل الطرف المسلّح.

 

يقول أحد قياديي «حزب الله» إنّ أحد الشروط التأسيسيّة لوصول الرئيس العتيد هو تيقّن «الحزب» من كونه سيقدّر وسيحمي سلاح «المقاومة». ربّما كان من الأفضل للمشرّع، اذاً، أن يضع هذا الشرط في المادة 49 من الدستور: «ولا یجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهوریة ما لم یكن حائزاً على الشروط التي تؤهّله للنیابة وغیر المانعة لأهلیة الترشیح… على سبيل المثال لا الحصر تأييد قيادة المقاومة الاسلامية له». ربّما يساعد ذلك في «توضيح النص» وانتخاب رؤساء ضمن المهلة الدستوريّة، التي أصرَّ المشرّع على أن تكون مقدّسة، حتّى أنه أفتى بانعقاد المجلس حكماً، إذا لم يقم رئيسه بدعوته للانعقاد (المادة 73)، ومنع مناقشة أي أمر آخر غير الرئاسة عند انعقاده (المادة 75). أمّا عدا ذلك، فما نفع مناقشة الدستور أو النظام في دولة ابتدعت مفاهيم لم تعرفها حتى أكثر الدول توافقيةً، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ الاغلبيّة النيابيّة فيها تُسمّي نفسها معارضة!