شهر بالتمام على الشغور الرئاسي وجلسة الغد الانتخابية على طريق أسلافها
شهر بالتمام يمضي على الشغور الرئاسي من دون أن يلوح في الأفق بصيص أمل بوضع نقطة النهاية لهذا الشغور، في وقت لا يتوقع أحد أن تنتج جلسة غد (الخميس) الأول من كانون الأول جديدا، ليمضي الشهر نحو بداية عام جديد والكرسي الأولى تنتظر سيدها، لتنتظم الحياة الدستورية والسياسية والإدارية في البلاد والبدء بوضع العلاجات اللازمة للازمات الحادّة التي تعانيها البلاد والعباد، معيشيا واقتصاديا وماليا وسياسيا، إذ أن لبنان على مرّ تاريخه منذ زمن الانتداب الفرنسي حتى اليوم شهد أزمات كانت تنتج حراكا فاعلا، لكن هذا الحراك الشعبي في مواجهة شتى الأزمات لم يكن في هذا المستوى من الانقسام والتشتت والضياع كما هو اليوم، حيث يسجل منذ العام 1943، إسقاط نحو 12 حكومة تحت ضغط الشارع اللبناني، والاحتجاجات الشعبية.
لم تقترب السنة الثالثة من الولاية المجددة للرئيس بشارة الخوري من نهايتها عام 1952 حتى فرض عليه الاستقالة التي لعبت بها سلسلة عوامل داخلية وخارجية.
فداخليا، كما يقول يوسف سالم «قويت شوكة المعارضة، وبدأت الصحف تشنّ حملات عنيفة على العهد والحكومة، وعلى سيد العهد نفسه، وأخذ الرئيس وحكوماته يقابلون هذه الحملات بإحالة الصحافيين على المحاكمة وإرسال بعضهم إلى السجن حينا وتعطيل الصحف أحيانا… وكم الأفواه في لبنان، وتحطيم الأقلام، وكبت الحريات يولّد الانفجار.
وزاد الطين بلّة، بطانة فاسدة أحاطت بالرئيس وضعفه أمامها واستسلامه إلى شهواتها، ولم تكن هذه البطانة بعيدة عن الرئيس، بل كانت بمعظمها من لحمه ودمه..
ووجد السلطان سليم – شقيق الرئيس – في بعض الموظفين أدوات طيّعة يأمرها فتجيب عابثة بالأنظمة والقوانين ومبادئ الأخلاق، حتى ضجّت البلاد وارتفعت الشكوى وعمّ السخط على الدولة جميع الطبقات.
وزاد في الضغط على الرئيس، إضافة إلى العومل الداخلية، ان السفارة البريطانية بدأت تتدخل ضده بشكل سافر، لأنها على حد تعبير الرئيس شارل حلو وجدت من الأفضل لمصالحها الاعتماد على المعارضة يدلّ الاعتماد على من هم في الحكم والسلطة، وهي استراتجية مألوفة لدى دول أجنبية عديدة قوامها عقد تحالف مع المعارضة لإنهاك الحكم القائم.
ويقول يوسف سالم «تدهور الوضع السياسي في البلاد وازدادت الحالة سوءا على سوء، وانتقلت المعارضة من التلميح إلى التصريح، وراحت تطالب جهارا باستقالة رئيس الجمهورية، وصار الشيخ بشارة الهدف الذي يتلقى السهام، ولم تبقَ له دروع تقيه وصار الأقطاب السياسيون الذين يأتي بهم رئيس الجمهورية إلى الحكم ويدعوهم إليه يخشون أن يصيبهم رشاش من النقمة المنصبة، على رئيس الجمهورية، فصاروا وهم متربعون في كرسي الحكم يتوددون إلى المعارضة، وينتهي بهم الأمر أن يشتركوا بأنفسهم مع المعارضة في المعركة الناشبة لإسقاط الشيخ بشارة».
يضيف يوسف سالم: «شعر رؤساء الحكومات جميعا ان سفينة الحكم صارت على وشك الغرق، فراحوا يغادرونها حتى لا يغرقوا معها ومع الرئيس» وهكذا استقالت حكومة عبد الله اليافي في شهر شباط 1952 بعد ان خلفت وزارة حسين العويني، ولم تبقَ في الحكم أكثر من 8 أشهر، وفي 12 شباط 1952، جاء رئيس الجمهورية بوزارة سامي الصلح الذي لم يكن بعيدا عن المعارضة فانطلقت رصاصة الرحمة على العهد كما يقول الرئيس صبري حمادة «حينما حضر الصلح إلى المجلس بعصمة ورقتيه الشهيرتين»، حيث سحب من جيبه الورقة التي فيها هجوم على العهد، خاتما بالقول كما جاء في محضر جلسة مجلس النواب آنئذ «لن أطرح الثقة لأنني لا أريد الثقة منكم، وأنا ماضٍ لأقدم استقالتي إلى فخامة رئيس الجمهورية. ولم يحضر الصلح إلى القصر الجمهوري ليقدم استقالته، كما يقول الرئيس بشارة الخوري، بل مضى إلى بيته ولحقه المعارضون» فأصدر آنئذ رئيس الجمهورية مرسومين، أحدهما ينص على قبول استقالة حكومة الصلح والثاني يقضي بتأليف حكومة ثلاثية قوامها: ناظم عكاري، باسيل طراد وموسى مبارك بعد ذلك بدأ بالاستشارات النيابية التي اختار على اثرها الرئيس صائب سلام لتشكيل الحكومة في 12 أيلول 1952 لكنه لم يوفّق، فاستقال ناظم عكاري من رئاسة الحكومة وعيّن سلام خلفا له مع استبعاد الوزيرين الآخرين، وفي يومي 15 و16 أيلول دعت المعارضة إلى الإضراب العام.
لقد تصاعدت الضغوطات الاستعمارية على المنطقة بما فيها لبنان وكان في 25 أيار 1950 صدر البيان الثلاثي الأميركي – البريطاني – الفرنسي يؤكد اتفاق الدول الثلاث على التدخل المشترك في الشرق الأوسط بحجة المحافظة على الأوضاع وتأمين الاستقرار، وتزايد الدول العربية بالسلاح، شرط عدم استعماله ضد بعضها البعض وبين هذه الدول بالطبع كانت إسرائيل.
«وتبع هذا البيان ظهور (الدفاع المشترك) الذي كان المطلوب من الدول العربية الإنضمام إليه. ورفض الشيخ بشارة الإنضمام إلى هذا الحلف، الأمر الذي أدّى إلى خلافه مع السياسة البريطانية، ومن ثمّ إلى نشاط العملاء البريطانيين في تأليب الرأي العام اللبناني عليه، وبالتالي التمهيد لإسقاط عهده».
لقد ظل الرئيس بشارة الخوري على الدوام يرفض ربط لبنان بأحلاف أجنبية لأنها تعارض روح الميثاق الوطني الذي كان أحد أهم أعمدة وفاق اللبنانيين، ومع انتصار ثورة 23 يوليو الناصرية في مصر عام 1952 ازدادت الضغوط الاستعمارية على المنطقة من جهة، وازداد صراع الدول الكبرى بين بعضها البعض من جهة أخرى، لفرض سيطرتها، خصوصا الصراع الأميركي – البريطاني، حيث ان واشنطن صارت ترمي للحلول محل النفوذ البريطاني، فيما بريطانيا تسعى لسد المنافذ بشتى الوسائل والسبل أمام الرياح الأميركية العاصفة، ويقول الرئيس صبري حمادة في هذا الصدد «الشهادة للّه، وقد أصبح الشيخ بشارة في ذمته تعالى، أنه أبدى صمودا عجيبا وترفّعا غريبا بوجه الإغراء والاغواء، ولم تلن شوكة معارضته ربط لبنان بمعاهدة كمعاهدة الدفاع المشترك مثلا، وأي من الارتباطات الأخرى، حتى بعد ان تحوّل الاغراء إلى تهديد وانقلب الاغواء إلى منازلة دولة كبيرة كانت وما تزال قرصنة الضمائر والذمم».
الضغوطات الخارجية وسلسلة من العوامل الداخلية المتناقضة والمتضادة التي تحالفت ضد الرئيس بشارة الخوري جعلته لا يكمل ولايته الثانية..
أمام هذه التطورات، وكما يقول الرئيس صبري حمادة ولما لم يعد بد من القوة لقمع حركة الشعب، آثر الشيخ الرئيس التخلي عن سفك الدماء فأبلغ الأكثرية النيابية المجتمعة في منزله في عاليه، «لقد رأيت أن أستقيل تأمينا للمصلحة العامة» وسلّم الدستور لقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، بعد أن كلفه رئاسة الحكومة المشكّلة من ناظم عكاوي وباسيل طراد.
(يتبع)