أحد الأسباب الرئيسية للشغور الرئاسي يَكمن في رهان فريق 8 آذار على الوقت الكفيل بتبديل القوى السياسية لمواقفها بما يخدم استراتيجيته الرئاسية، ولكن ما كان يصحّ سابقاً ليس بالضرورة أن يصحّ حاضراً ومستقبلاً.
تشهد الانتخابات الرئاسية عَض أصابع مثلّثاً: السيد حسن نصرالله يراهن على عامل الوقت الذي سيدفع النائب جبران باسيل عاجلاً أم آجلاً إلى السير بمرشحه الرئاسي النائب السابق سليمان فرنجية؛ والنائب باسيل يراهن على عامل الوقت الذي سيدفع السيد نصرالله عاجلاً أم آجلاً إلى التخلي عن دعم فرنجية لمصلحة دعم ترشيحه الشخصي لأن لا بديل مسيحياً، بنظره، للحزب عنه؛ وفريق 8 آذار مُجتمعاً يراهن على عامل الوقت الذي سيدفع المعارضة عاجلا أم آجلا إلى السير بمرشحه الرئاسي تلافياً لشغور مفتوح يُفضي إلى سقوط هيكل الدولة.
ولكن لا مؤشرات عملية إلى انّ باسيل في وارد التراجع عن رفضه لفرنجية، ولا ان نصرالله في وارد الظهور بمظهر تسليمه بشروط باسيل الرئاسية، ولا ان المعارضة على استعداد للتسليم بمعادلة رئيس من 8 آذار أفضل من الشغور، واي رهان على عامل الوقت لتغيير تَموضع هذا المثلّث هو رهان فاشل، إذ حتى لو تم الافتراض بأنّ الممانعة نجحت في توحيد صفوفها فإنّ المعارضة لن تمنحها فرصة لتسوية تُعيد توحيد المعارضة والموالاة على غرار ما حصل في العام 2016.
والعقبة الأساسية أمام فريق 8 آذار هي الأزمة المالية التي لن يكون باستطاعته الخروج منها من دون تسوية مع المعارضة توحي بالثقة للداخل وتؤمِّن الدعم المالي السعودي الذي من دونه لا إمكانية للخروج من الأزمة القائمة، الأمر الذي لن يحصل في حال أصَرّ الفريق المُمانع على مرشّح من صفوفه.
فلا الإصلاحات ممكنة مع رئيس من 8 آذار بدليل انّ النصف الثاني من ولاية الرئيس ميشال عون كان ممسوكاً بالكامل من قبل الفريق الممانع ولم يتحقّق اي بند إصلاحي، ولا المساعدات السعودية، واستطراداً الخليجية، واردة في حال انتخاب رئيس من 8 آذار، ما يعني استمرارا للأزمة وتفاقمها بما يفتح الباب على تدخلات دولية لن تكون لمصلحة الممانعة، وهذا ما تدركه الأخيرة جيدا.
فلا رئيس للجمهورية سوى عندما يقتنع السيد نصرالله باستحالة إيصال مرشحه الرئاسي، ولا يبدو انه قد وصل إلى هذه القناعة بعد، فيما من مسؤولية المعارضة بمبادراتها ومناوراتها ومواقفها تسليط الضوء على دوره التعطيلي للانتخابات الرئاسية وتحميله مسؤولية تفاقم الأزمات المالية والاجتماعية من أجل دفعه إلى مغادرة مربّعه الرئاسي بحثاً عن مساحات توافقية معها تُتنج رئيساً غير خاضع لمحاور النزاع، لأنه في حال لم يشعر بالضغوط الداخلية والخارجية اللازمة عليه لن يكون على عجلة من أمره للتخلّي عن مرشحه الرئاسي.
ولا يمكن قراءة الحركة التي يقوم بها «حزب الله» باتجاه بكركي وغيرها سوى من زاوية محاولة رفع مسؤولية الشغور الرئاسي عن نفسه ومواصلة شراء الوقت بانتظار الظروف التي تسمح بتحقيق هدفه الرئاسي، شأنه في ذلك شأن النائب باسيل الذي يوحي بحركته بأنه يستعجل إنهاء الشغور، فيما هدفه الفعلي محاولة إنهاء الظروف التي تحول دون تبنّي ترشيحه من قبل حليفه، ويتحمّل الحزب وباسيل مسؤولية عدم انتخاب رئيس للجمهورية وحركتهما لن ترفع المسؤولية عنهما، لأنّ من يريد انتخاب رئيس لا يتجاوز المهلة الدستورية، ويصرّ على جلسات انتخابية مفتوحة، ويبحث عن أسماء توافقية، ولكنهما ليسا في هذا الوارد ويتعاملان مع الاستحقاق الحالي على غرار تعاملهما مع الشغور السابق بالرهان على الوقت ولو من تَموضعات رئاسية مختلفة.
وعلى رغم الحركة الدولية الناشطة والظاهرة باتجاه لبنان والسعي إلى إنهاء الشغور الرئاسي، ولكن سقف هذه الحركة سيبقى محكوماً بمدى التجاوب الإيراني معها، لأنه في حال لم تتجاوب طهران لتطلب من «حزب الله» التراجع عن مرشحه الرئاسي، فسيبقى الحراك الدولي من دون أفق ولا ترجمات عملية، لأنّ المجتمع الدولي لا يَمون على الحزب ولا يستطيع الضغط عليه، ومن يَمون عليه هو مرجعيته الإيرانية، فهل من مصلحة إيرانية بتسليف واشنطن الورقة الرئاسية في لبنان على غرار ورقة الترسيم البحري التي لما أبصرت النور لولا الموافقة الإيرانية؟
ولن يخرج الدخان الرئاسي الأبيض سوى في حالتين: وصول «حزب الله» إلى الحائط المسدود وارتفاع منسوب الضغوط عليه بما يلزمه مغادرة موقفه الرئاسي الحالي، ورغبة طهران في توجيه رسالة إيجابية إلى المجتمع الدولي من خلال صندوقة الانتخابات الرئاسية في لبنان، وما لم يضطر الحزب إلى إعادة تموضعه، وما لم تُظهر طهران رغبتها بالانفتاح، فلا انتخابات رئاسية في لبنان.
ومع عدم قدرة المعارضة على توحيد صفوفها بما يشكّل عامل ضغط على «حزب الله» للتخلّي عن مرشحه الرئاسي، فإنّ الأنظار تتجه إلى الحركة الخارجية، ولكن ثمة وجهة نظر تقول ان طهران التي تشهد حركة احتجاجية في الداخل وهي على تناقض مع الموقف الأوروبي نتيجة انغماسها في الحرب الأوكرانية، ومفاوضاتها مع السعودية متوقفة منذ الإطاحة برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والاتفاق النووي معلّق، فإنها لن تبادر إلى الحلحلة في لبنان في ظل مناخات التشنُّج العامة السائدة، كما لا تجد نفسها مضطرة إلى التنازل من دون ان تقبض ثمن هذا التنازل، ولكن بالمقابل هناك وجهة نظر أخرى تقول انّ إيران ستتجاوب مع المساعي الدولية في لبنان في الوقت المناسب على قاعدة تشدّدها في العراق وأوكرانيا وتساهلها في لبنان، خصوصاً ان هذا التساهل لا يؤثر على دور ذراعها اللبنانية.
فالعواصم الغربية والعربية المعنية بلبنان غير قادرة على فرض رئيس للجمهورية، ودور الكتل النيابية أساسي على هذا المستوى، ولكن بما انّ فريق 8 آذار هو المعطِّل للاستحقاق الرئاسي بسبب خلافاته الداخلية أولاً، وعدم قدرته على إيصال مرشحه الرئاسي ثانياً، فإنّ الخروج من هذا المأزق يتطلّب إمّا ان تتفاهم العواصم المعنية بلبنان مع طهران بُغية ان تطلب الأخيرة من «حزب الله» التعاون والتساهل بدءاً من التخلي عن مرشحه الرئاسي وصولاً إلى الاتفاق على مرشح توافقي، وإمّا ان تنجح المعارضة بوضع خطة مواجهة رئاسية ترفع منسوب الضغوط الشعبية على الحزب فيضطر معها ليس لانتخاب مرشح المعارضة، إنما لمغادرة تمسّكه بمرشحه الرئاسي وملاقاة المعارضة في منتصف الطريق من أجل انتخاب الرئيس الذي يجسِّد الحاجة للانقاذ من جهة، ويعكس موازين القوى الداخلية والخارجية من جهة أخرى.