الناس، في لبنان، تعرف المسؤولين عن شؤونها والمعمّقين همومَها ومضاعفي شجونها. تعرفهم حلّةً ونسباً. تعرفهم فوق وتعرفهم تحت. تعرف المهرّج بينهم كما تعرف الرصين وكذلك مدّعي الرصانة. وكما كشف استطلاع رأي أجرته احدى الشركات المختصة لمصلحة جهة أجنبية رسمية (أوروبية غربية) ونشرنا خلاصته في «شروق وغروب» قبل نحو شهرين أقرّ نفر من الذين شملهم الاستطلاع بأنهم يعرفون حقيقة الزعيم أو القائد أو المتزعم الخ… وهي حقيقة «لا تشرّف» ولكنهم متمسكون بزعمائهم على اعتقاد منهم بأن «تركيبة لبنان» تقتضي أن يفيء اللبناني الى ظلال الزعيم ليس تقديراً لمزايا يعترفون بأنها غير موجودة فيه، ولكن «مصلحة الطائفة» (أو المذهب) تقتضي ذلك.
فهؤلاء المتحكمون بالبلاد والعباد لا يتركون مناسبة إلّا يستغلّونها لإظهار واصطناع العفة والطهارة، والتدثّر بلبوس الزهّد والنساك والأتقياء الأنقياء الأبرياء …
وشر البلية ما يُضحك ويُبكي في آن معاً، عندما يتبادلون التهم في تحميل الآخر ذنبَ عدم إجراء الاستحقاق الرئاسي واستمرار الشغور في رأس الدولة، ونحن على أبواب السنتين من الدخول في مهلة الشهرين التي حدّدها الدستور لانتخاب الرئيس الجديد قبل انتهاء ولاية العهد.
واللبناني يعرف بالدلائل القاطعة أنهم، جميعاً ومن دون أي استثناء، مسؤولون عن هذا الشغور الرئاسي القاتل، لأن الدولة تتفكّك يومياً، ولأن الانهيار شبه الشامل يمضي ليكون شاملاً.
صحيح أن المسؤولية ليست متساوية، ولكن الجميع يتحملها بمقدار أو بآخر. ولو شئنا أن نتعمق أكثر لاكتشفنا الأسباب والدوافع والأهداف التي يلتقي بعضها مع مخططات خارجية، ويتقاطع بعضها الآخر مع مطامح ذاتية، ويصب بعضها الثالث في خانة الذين ضاق صدرهم بالنظام اللبناني وفقدوا قدرة الصبر عليه، أو أقله على الاستئثار بتفسيره والممارسة المغلوطة عمداً من قِبَل أطراف مهيمنة هنا وأطراف مرتهَنة هنا وهناك وهنالك الخ…
وفي تقديرنا أن «الأسباب الموجبة» لهذا الواقع الكارثي هي أن الأكثرية الساحقة من الذين أوصلتهم الحرب اللعينة الى مراكز السلطة والقرار والقيادة قد جاءوا من بيئات «على قدّ حالها» حاملين معهم الأحقاد والضغائن والرغبة في التعويض عمّا فات(…) ولن نُسهب في هذه النقطة المعروفة من الجميع حتى من الأزلام والأنصار والمحاسيب.
ولقد يكون واجباً التحذير من أن هذه الحال لن تستقيم ما لم تَزُلْ آخر آثار أقدام الميليشيات التي تتحكم بلبنان منذ أن أوكلوا إليها شؤون لبنان في مطلع التسعينات فأوصلته الى هذا الدرك الذي يصح فيه قول الصحافي اللامع المرحوم رشدي المعلوف: «لم نعُد نخشى السقوط لأنه لم يعُد تحتَنا تحت».