يتساوى الداخل والخارج في ملاقاة مأزق انتخابات الرئاسة. كلاهما غير مستعجل عليها، ما يجعلها مؤجّلة الى امد قد يكون اطول مما يُعتقد. لم يعد الاستحقاق مشكلة وعبئاً ثقيلاً مقدار ما كان عليه في الايام الاولى من الشغور
ليس اللبنانيون وحدهم اعتادوا عدم انتخاب رئيس لهم، بل ايضا ديبلوماسيون غربيون راحوا ينظرون الى الشغور كأنه حدث عادي يومي، تُقلّب صفحاته من دون ان يرف جفن احد. بعض هؤلاء لم يصدق، حتى ايار 2013، ان البلاد لن تشهد انتخابات نيابية عامة، قبل ان يجدوا انفسهم امام محدثيهم يتبنون معادلة لبنانية غير مألوفة تخيّر بين الانتخابات النيابية والاستقرار.
تكررت المعادلة نفسها حتى تشرين الثاني 2014، ووجدوا انفسهم مرة ثانية يبررون الذريعة اياها: التمديد للبرلمان او الاضطراب الامني. ما بين التمديدين شغرت الرئاسة الاولى ولا تزال، ولم يسع الديبلوماسيون الغربيون الاكثر اهتماماً بالوضع الداخلي سوى الاكتفاء بحضّ مجلس النواب والافرقاء على انتخاب الرئيس، وانجاز هذا الاستحقاق الدستوري. بينهم مَن لا يزال يتمسّك بمواقف كهذه اخصّهم السفيران الاميركي دافيد هيل والفرنسي باتريس باولي، بينما يتوقع السفير البابوي غابريال كاتشيا امام محدثيه اجراء الانتخاب من دون تحديد مهل.
العبارة العابرة بين لافروف وباسيل: اين اصبحت الرئاسة؟
اي رئاسة؟
في الايام القليلة المنصرمة، بعد الجلسة 20 لمجلس النواب للانتخاب وتعذّر التئامه الاربعاء الماضي، بات الموقف الديبلوماسي الغربي في بيروت اكثر واقعية وتأثراً بالعجز الداخلي الوثيق الصلة بأزمات اقليمية، تحول دون دفع الافرقاء اللبنانيين الى انتخاب رئيسهم. لا يفصل هؤلاء بين العقبات المحلية واخصّها ــــ في تقويم بعضهم ــــ اصرار الرئيس ميشال عون على انتخابه رئيساً وبين النزاعات الاقليمية المشغولة بملفات ابتعدت كثيرا عن لبنان الى حد الاهمال.
يكاد يلتقي اكثر من ديبلوماسي غربي معني على طرح سؤالين متلازمين: أولهما، ماذا في وسع الغرب ان يفعل للبنان اكثر مما فعل حتى الآن؟ ثانيهما، اي افكار جديدة تقترحونها كي نساعد على انتخاب الرئيس؟
في فحوى ما يفصح عنه ديبلوماسيون غربيون بضع ملاحظات:
1 ــــ بذل المجتمع الدولي مقدار ما استطاع من الجهد في سبيل انجاز الاستحقاق الرئاسي، عبّرت عنه وساطة الموفد الخاص رئيس دائرة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في الخارجية الفرنسية السفير جان فرنسوا جيرو لدى ايران والسعودية اكثر من مرة، وصولاً الى زيارة لبنان في شباط الماضي واجتماعه بالافرقاء بغية استخلاص افكار تترتب عليها مبادرة تساعد على انتخاب الرئيس. سرعان ما اصطدم بالخلاف الايراني ــــ السعودي. اجتمع البلدان على ابلاغ جيرو موقفاً متطابقاً هو ان الاستحقاق الرئاسي شأن لبناني، في وقت يرفع كل منهما في وجه الآخر الفيتو الكافي للحؤول دون انتخاب الرئيس.
لم يرتطم جيرو وحده بالفيتوين المتصلبين. في موازاة مهمته، سأل نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عندما اجتمع به في زيارته الاخيرة لبيروت، في 6 كانون الاول 2014، عن سبل تقديم حزب الله مساعدة ترمي الى اقناع عون بالتخلي عن ترشيحه في ظل عدم التوافق عليه، فرد نصرالله: قبل ان اقنع العماد عون بالتخلي عن ترشيحه، يقتضي ان اقتنع انا اولاً بأن عليه ان يتخلى عن ترشيحه. كيف اقنعه بما لا اقتنع به؟ نحن لا نزال نتمسك بترشيحه ونؤيده.
لم تكن كذلك العبارات القليلة عن الاستحقاق الرئاسي التي تبادلها وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في 3 آذار، في لقائهما على هامش «مؤتمر دعم حقوق المسيحيين وخصوصا في الشرق الاوسط» في جنيف، اقل دلالة. بجملة عابرة لم يتوقف طويلا عندها، سأل لافروف: اين اصبحت انتخابات الرئاسة عندكم؟ وبجملة عابرة مماثلة ردّ باسيل: أي رئاسة؟ ثم عقّب: لا شيء حتى الآن، ولا شيء في المدى القريب.
2 ــــ اتخذ المجتمع الدولي اكثر من مبادرة في حضّ الافرقاء اللبنانيين على انتخاب رئيس، آخرها لاسابيع قليلة خلت بيان رئاسي اصدره مجلس الامن سبقه التقرير الدوري للقرار 1701 في السياق نفسه ومناشدة الامين العام للامم المتحدة بان كي مون لبنان انتخاب الرئيس. لم يكن السفراء المعتمدون اقل نشاطا في تجوالهم على القيادات اللبنانية لتشجيعها على تخطي العراقيل والعقبات والتئام مجلس النواب. الا انهم اصطدموا مرة تلو اخرى بمواقف متشددة.
3 ـ باتت اسباب تعذر انتخاب الرئيس ماثلة بوضوح في اذهان ديبلوماسيين غربيين يسألون محدثيهم اللبنانيين عن افكار جديدة يسوقونها لدى حكوماتهم بازاء ما يسمّونه «العقدة المعروفة»: منذ ان خرج لبنان من نظام الانتخاب الديموقراطي الى آخر مغاير ومناقض له هو نظام التوافق، لم يعد في الامكان انتخاب رئيس الدولة الا في ظل توافق وطني عليه. في ظل استحالة التوافق على اسم رئيس تحت وطأة انقسامات متشعبة، مسيحية ـــــ مسيحية وسنّية ـــــ شيعية، يصبح من المتعذر انعقاد مجلس النواب واكتمال نصاب كتله كلها من اجل انتخاب رئيس الجمهورية.
4 ـ يطرح بعض السفراء الغربيين، من الملمين بالوضع الداخلي، سؤالا يعكس يقينهم من ان لا رئيس وشيكا للبنان في مدى قريب: ما هي الحجة الاضافية الطارئة التي تبرر تدخلا غير تقليدي للمجتمع الدولي حيال لبنان من اجل انتخاب رئيسه. لم يعد يتبقى سوى ما هو غير منطقي ومستبعد الحصول: اجتماع مجلس الامن او عقد مؤتمر دولي.