Site icon IMLebanon

“فخامة الرئيسَين” لا يساويان رئيساً… ماذا إذا غاب قسراً ميقاتي أو بري؟

 

مَن شاهدَ رئيسَي مجلس النواب والحكومة المستقيلة نبيه بري ونجيب ميقاتي يُبحران جوّاً إلى منصّة الحفر في البلوك رقم 9 في بحر لبنان، يُدرك جيّداً أن لا صحّة للأخبار المسرّبة حول إمكان أن يعتكف ميقاتي، وبطبيعة الحال فإنّ بري لا يُمكن أن يفعلها. بكثير من الحبور، وكأنّهما في رحلة سياحية ترفيهية، ظهرا وكأنّهما اثنان في واحد، وبدل عن رئيس جمهورية ضائع في جمهورية ضائعة.
لم تكن مظاهر الفرح والحبور والغبطة على وجهي «فخامة رئيسيْ» الدولة تعبّر عن مشاعر اكتشاف النفط والغاز في المياه اللبنانية بقدر ما كانت تعكس ارتياحهما في الإقامة الدائمة في موقع تولّي مهام رئيس الجمهورية «المغيّب» بقرار يشارك في صناعته رئيس مجلس النواب، «حزب الله» ومحور الممانعة الواقفون وراء مرشحهم رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية حتى إشعار آخر. سبق لرئيس الجمهورية السابق ميشال عون أن ركب عباب اليمّ على متن باخرة التنقيب في البلوك رقم 4 في 27 شباط 2020 مع رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ولكن لم يسعفه الحظ حتى يكون مشاركاً في رحلة الوصول إلى باخرة الحفر الجديدة إذ خابت آماله في نتائج تنقيب 2020 بعدما تبيّن عدم وجود الغاز.

فهو كان مسؤولاً عن فراغ طال عامين ونصف العام قبل أن تتسنّى له الفرصة للوصول إلى قصر بعبدا ليضيِّع بعدها ستة أعوام من عهده الذي انطوى وهو واقف عند مدخل القصر يبكي على أطلال ما خلّفه من خسائر وفضائح وتداعيات وهزائم، وليتأمّل مشهد نظارات بري وميقاتي الشمسية بثياب السبور. غاب «الرئيس» وحضر «الرئيسان» فتصدرا المشهد. بطبيعة الحال لم تكن مشاركة مدير عام القصر الجمهوري الدكتور أنطوان شقير قادرة على حجب مسألة غياب «الرئيس». كما أنّ مشاركة وزير الطاقة وليد فياض لم تكن إلا من قبيل ملء الفراغ بالوزير المناسب لأنّه في الموقع المناسب ولم يكن من الممكن تجاوزه.

خطر الطوّافة وجريمة الفراغ

باختصار كانت الصورة تحكي عن أنّ «فخامة الرئيسين» سعيدان بهذا الدور ولا يهمهما ملء الفراغ. ولكن ربّما كان من الخطأ أمنياً أن يتوجّها معاً على متن طوافة واحدة إلى باخرة الحفر لأنّ الأعمار بيد الله ولا يعرف أحد ماذا تخبّئ الأقدار. فإذا كان الدستور لحظ طريقة ملء الفراغ في حال غياب رئيس الجمهورية وتعذّر قيامه بمهامه لأسباب قاهرة، أو ربّما الوفاة، فإنّ الدستور لم يلحظ طريقة ملء الفراغ الناشئ عن تعذّر قيام رئيسي مجلس النواب والحكومة لأسباب قاهرة، أو ربما من بينها الوفاة، بمهامهما الدستورية في وضع كالذي يمرّ فيه لبنان. من شاهد بري وميقاتي في عزّ فرحتمها يمكن أن يدرك أبعاد الجرم المرتكب في حق الجمهورية من أجل منع انتخاب رئيس لها، وهو فعل جرم يتكرّر قصداً وعمداً، وعن سابق تصوّر وتصميم منذ العام 2007.

رئيس رغم الصعاب

منذ الإستقلال حتى انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، لم يحصل فراغ في رئاسة الجمهورية التي كانت دائماً مستهدفة. عندما استقال الرئيس بشارة الخوري عام 1952 تحت ضغط قوى المعارضة، بعد انتهاكه الدستور وارتكاب خطيئة التمديد، سارع مجلس النواب إلى انتخاب كميل شمعون خلفاً له. وعندما حصلت الحرب على الجمهورية وشمعون عام 1958، رفض أن يستقيل وبقي حتى آخر يوم من ولايته بعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب خلفاً له قبل انتهاء ولايته.

كانت الجمهورية أهمّ من الرئيس وكان الموقع أهم من الشخص. حتى عندما أعلن الرئيس شهاب أنّه مستقيل بعد انتخابات عام 1960 اهتزّ البلد لمجرّد شيوع هذا الخبر. لم يكن الفراغ في هذا الموقع مجرد حدث عابر. وكانت كل الجهود تنصبّ لعدم الوقوع فيه. لذلك كانت الإستقالة مسألة خطيرة في تلك المرحلة على رغم أنّ التركيبة السياسية كان يمكن أن تتجاوز الإستقالة بانتخاب رئيس جديد في حال بقي شهاب متمسكاً بها. ولكن نزولاً عند رغبة مؤيّديه ومعارضيه، عاد عن استقالته وأكمل ولايته. حتى المعارضة كانت ضد الفراغ والإستقالة.

بدوره الرئيس سليمان فرنجية رفض أن يستقيل. في آذار 1976 كانت هناك عريضة نيابية تطلب منه الإستقالة ولكنه رفض. في ظلّ الحرب والضغط العسكري والقتال على جبهات كثيرة لم تكن جبهة الرئاسة أقل خطورة. حرصاً على الموقع والإستمرارية تم انتخاب الياس سركيس قبل ستة أشهر من انتهاء ولاية فرنجية. في الموعد المحدّد في 23 ايلول 1976 حصل التسلّم والتسليم بين الرئيسين.

وحتى عندما أعلن الرئيس الياس سركيس في العام 1978 عن رغبته بالإستقالة تعبيراً عن رفضه لعمليات القصف التي كان يقوم بها جيش النظام السوري ضد المناطق الشرقية في حرب المئة يوم بعدما اتهمته الجبهة اللبنانية بالعجز، حتى الجبهة اللبنانية رفضت هذه الإستقالة، وبقي سركيس في موقعه ليتأمّن قبل انتهاء ولايته انتخاب رئيسين للجمهورية: بشير الجميّل، الذي اغتيل في 14 أيلول عام 1982، ثم أمين الجميّل خلفاً له.

استراتيجة التعطيل

منع انتخاب رئيس بدأ مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل من خلال محاولة النظام السوري فرض انتخاب الرئيس الذي يريده ولا يريد أحداً غيره. الحجّة نفسها يتمسّك بها «حزب الله» ومن معه من أجل فرض الرئيس الذي يريده. هكذا فرض هذا النظام انتخاب الرئيس الياس الهراوي بعد اغتيال الرئيس رينيه معوّض عام 1989، الأمر الذي لا يزال يطرح علامات استفهام وشكوكاً حول علاقته باغتيال معوّض الذي لم يكن انتخابه وفقاً لإرادته. وهكذا فرض التمديد للهراوي عام 1995. ثم فرض انتخاب الرئيس إميل لحود عام 1998. ثم فرض التمديد له عام 2004 قبل أن يفرض عليه القرار الدولي سحب جيشه من لبنان نتيجة تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة الأرز والإستقلال عام 2005.

 

انتقلت لعبة فرض «الرئيس الذي يريده أو الفراغ «من النظام السوري إلى «حزب الله «بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود بفعل انتقال الغالبية النيابية في انتخابات 2005 إلى قوى 14 آذار. هكذا استمرّ الفراغ حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان بعد غزوة 7 أيار 2008. ثم فرض الفراغ بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان حتى انتخاب مرشحه العماد ميشال عون في 31 تشرين الأول 2016. واليوم يكرّر لعبة فرض انتخاب الرئيس الذي لا يريد أحداً غيره مع مرشحه سليمان فرنجية.

إحتلال شرعي في وضع غير شرعي

في ظل هذا الفراغ المستمر منذ انتهاء ولاية عون، يستسيغ الرئيسان نبيه بري ونجيب ميقاتي الإمساك بلعبة السلطة وكأنّهما يشكّلان معا بدلاً عن الرئيس الضائع. صحيح أنّ ميقاتي يوحي وكأنّه يريد أن يعتكف ولكن الواقع لا يظهر مثل هذه الرغبة. قبله الرئيس تمام سلام هدّد بالإعتكاف بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان بسبب خلافاته مع «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل ولكنّه لم يعتكف.

المسألة الدستورية التي تطرح نفسها تتعلّق باحتمال تعذّر قيام ميقاتي بواجبات تصريف الأعمال لظروف قاهرة، كالمرض أو الوفاة لا سمح الله، أو القرار الذاتي بالخروج من السياسة. في حال الفراغ في حاكمية مصرف لبنان تؤول الوظيفة إلى نائب الحاكم الأول وإذا رفض تؤول إلى نائب الحاكم الثاني، وفي قيادة الجيش يتولى القيادة موقتاً رئيس الأركان ولا نصّ حول خيار آخر كما هو الوضع اليوم بغياب رئيس الأركان.

في مسألة صلاحيات رئيس الجمهورية لا نصّ حول من يتولّى هذه الصلاحيات في حال خروج رئيس الحكومة من اللعبة. بموجب الدستور يتولّى مجلس الوزراء مجتمعاً هذه المسؤولية. وهذا المجلس لا يجتمع تلقائياً، بل بدعوة من رئيسه. فكيف يجتمع إذا غاب رئيسه؟ خصوصاً في ظل اللغط الدستوري حول شرعية الجلسات التي تعقدها حكومة تصريف الأعمال، ودستورية المراسيم والقرارات التي تصدر عنها، ومن يوقّع عليها، كل الوزراء؟ أم الأكثرية؟ بخلاف ما كان يحصل مع حكومة الرئيس تمام سلام التي كانت غير مستقيلة.

هل يتولّى نائب رئيس الحكومة مثلاً هذه المسؤولية بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات؟ مع أن لا نصّ في الدستور على مثل هذا الأمر ولا سوابق له. فالحكومة تصبح مستقيلة إذا استقال أكثر من ثلث أعضائها، أو إذا استقال رئيسها، وبعد انتخاب رئيس للجمهورية أو بعد انتخابات نيابية. ولم يسبق أن تولّى أي نائب لرئيس الحكومة أي مسؤولية مماثلة لملء الفراغ الذي يتركه رئيسها في ظل استحالة إجراء أيّ استشارات نيابية وتسمية رئيس جديد لتشكيل حكومة جديدة.

بالنسبة إلى رئيس مجلس النواب في حال استقالته مثلاً، أو تعذّر قيامه بواجباته لأسباب قاهرة أو بسبب الوفاة لا سمح الله، هل يمكن للمجلس أن ينعقد من أجل انتخاب رئيس جديد له وهو في حالة انعقاد دائم مفترض لانتخاب رئيس للجمهورية تضع جلساته التشريعية موضع التشكيك الدستوري؟ في الحالات العادية قد لا تكون هناك مشكلة بحيث يمكن أن يتولى الدعوة لانتخاب رئيس بديل للمجلس نائبه، أو رئيس السنّ ربما. ولكن أكثر من ذلك من يدعو في حال كهذه إلى جلسة نيابية لانتخاب رئيس للجمهورية؟ وهل من واجبات الداعي أن يدعو لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية أم رئيس للمجلس في ظل هذه الفوضى؟

في رأي نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي أنّ نائب رئيس المجلس يمكن ان يدعو إلى عقد جلسات وأن يترأسها لأنّه كامل المواصفات و»بيقدر يعمل اللي بدّو ياه». أما نائب رئيس مجلس الوزراء فهو منصب غير موجود في النصّ دستورياً بحكم عدم وضع نظام داخلي لمجلس الوزراء بعد الطائف.

وهذا رأي نائب رئيس الوزراء السابق أيضاً النائب غسان حاصباني باعتبار أن لا سوابق في مسألة تولّي نائب رئيس الحكومة أي صلاحيات وأي دور وأنّ الفراغ يحصل حكما وبالتالي تصبح الحاجة ملحة لالتئام مجلس النواب حكماً وانتخاب رئيس ومن ثم تسمية رئيس حكومة وتشكيل حكومة جديدة.

في ظل هذا الواقع وهذه الأسئلة المشروعة والمطروحة يبقى أن استكشاف بئر الفراغ الرئاسي يبقى أهم من استكشاف بئر النفط. ويبقى أيضاً أن رئيسين أو أكثر ولو اجتمعا لا يمكن أن يحلّا محل رئيس الجمهورية.