لا يمكن التكهُّن بنتيجة الانتخابات النيابية سلفاً كون المفاجآت واردة دائماً، خصوصاً في حال خروج الناس للتصويت بكثافة خلافاً لكل التقديرات بسبب ما آلت إليه أوضاعها الحياتية، ما يعني انتقال الأكثرية من محور «حزب الله» إلى المحور السيادي، فيما من الثابت انه يستحيل على أي فريق انتزاع أكثرية الثلثين.
التعويل على نتائج الانتخابات أمر أساسي، ولكن الأهم كيفية توظيف هذه النتائج سياسياً، لأنه لا يكفي فوز المعارضة بالأكثرية مثلاً من دون التأسيس على هذا الفوز للمرحلة المقبلة من أجل القطع مع مرحلة ما قبل الانتخابات، وتقديم ممارسة مختلفة بعدها، ولكن التحدي الأساس أمام هذه المعارضة يكمن في ثلاثة شروط مُلزمة وأساسية:
الشرط الأول: ان تنجح في توحيد صفوفها بعد الانتخابات، وهذا شرط ملزم ومن دونه ستبقى السيطرة لمحور «حزب الله» الذي يتقدّم على المعارضة بأشواط لجهة انه موحّد الصفوف استراتيجياً. وحتى انه تكتياً، عملَ على ترتيب بيته الداخلي، وبالتالي الفوز غير كاف من دون الوصول إلى آلية تنسيق بالحد الأدنى في حال كان تشكيل إطار جامع غير ممكن بالحد الأقصى.
الشرط الثاني: ان تتّفِق على برنامج عمل وخطوات عملية تبدأ من انتخاب رئيس المجلس الذي لا يجب ان يكون تلقائيا، مرورا بتكليف رئيس الحكومة الذي يجب ان يخضع لمشاورات مكثفة، وقطع الطريق حكما أمام إحياء حكومات الوفاق الوطني، وصولا إلى مقاربة موحدة لانتخابات رئاسة الجمهورية تبدأ من رفض تأمين النصاب سوى لانتخاب الرئيس غير الخاضع للمحور الآخر، وتنتهي برفض اي تسوية تُعيد إنتاج السلطة وكأن لا انهيار ولا ثورة.
الشرط الثالث: ان تُطلق دينامية شعبية وطنية تتجاوز المؤسسات الدستورية، اي ان تستفيد من مومنتم الانتخابات والحماس الشعبي من أجل ان تستكمل المواجهة داخل المؤسسات وخارجها، لأنّ سقف المواجهة المؤسساتية معروف وجُرِّب، والهدف من الجانب المؤسساتي منع الفريق الآخر من ان يحكم مجددا، وإلا كانت المقاطعة هي الأجدى، لأنه ما المغزى من إعادة تمكين الفريق الذي أوصَل لبنان إلى ما وصل إليه من الحكم والاستمرار في سدة السلطة والمسؤولية.
وما تقدّم هي شروط مُلزمة للمعارضة، وفي حال لم تُقدم عليها يعني نجاح محور «حزب الله» في انتزاع شرعية الانتخابات، والاستمرار في السلطة مُتكئاً على شَقِّه لصفوف المعارضة، أو التعامل مع الانتخابات كعملية ديموقراطية في سياق تداول طبيعي للسلطة، لأن هذا ما يريده من الانتخابات إن لجهة الحفاظ على وزنه النيابي، أو لناحية التعامل مع مرحلة تشكيل السلطة بدءاً من رئاسة الجمهورية بليونة لتجاوز مثلّث قطوع الانهيار والثورة والعزلة.
فالأوضاع التي انزلقت إليها البلاد في نصف الولاية الثاني من العهد أضرّت كثيراً بـ«حزب الله» كونها هدّدت الستاتيكو الذي يقف عليه، وهو يعتبر انّ الانتخابات النيابية ومن ثمّ الرئاسية تشكّل مدخلاً لطَي صفحة مثلّث الثورة والانهيار والعزلة، وفرصة لإعادة تكوين السلطة وانطلاق قطار الحياة السياسية مجدداً من دون ان يُقدم على اي تنازل يتعلّق بسلاحه ودوره.
فالانتخابات محطّة مهمة على طريق التغيير، ولكن يفترض بالمعارضة ان تحدِّد وظيفة الانتخابات وما هو مطلوب منها في حالتي الفوز بالأكثرية او بالثلث المعطِّل. ففي الحالة الأولى عليها البدء بربط النزاع بانتخاب رئيس المجلس وتكليف رئيس الحكومة وتأليف الحكومة. وفي الحالة الثانية عليها ان تتّفِق على موقف موحّد من الاستحقاقات الثلاثة وان تتحضّر للاستحقاق الرئاسي برفض تأمين النصاب واللجوء إلى استراتيجية الفراغ حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
وإذا كان الرهان على إرادة الناس كبيرا بسبب لمسها لمس اليد ما آلت إليه أوضاعها مع الفريق الحاكم، وانّ تجديدها لأربع سنوات لهذا الفريق يعني انّ أوضاعها لن تتحسّن، بل ستزداد سوءا كون دينامية الفراغ لا تتوقّف عند حدود معينة، فإنّ الرهان على ترتيب المعارضة لبيتها الداخلي ليس كبيراً كي لا نقول صعبا او مستحيلا، ولكن في حال لم تشكّل أمانة عامة مع آلية تنسيق وخريطة طريق واضحة، فيعني انتهاء مفعول الانتخابات مع فرز صناديق الاقتراع.
والتجارب كثيرة على هذا المستوى، وأبرزها مقاطعة العام 1992 التي كانت استثنائية بنجاحها، ولكن استثنائية أيضاً بفشل متابعة نجاح هذه المقاطعة، كما ان التفرُّد في قيادة حركة 14 آذار من دون تخطيط مسبَق للخطوات الواجب اتخاذها أدى إلى نتائج عكسية وسلبية وأجهض اندفاعة ثورة الاستقلال، وذلك بدءاً من التحالف الرباعي، مروراً بالذهاب إلى الدوحة على أثر أحداث أيار 2008، وتأليف حكومة وفاق وطني على رغم خسارة 8 آذار في انتخابات العام 2009 وتعهُّد السيد حسن نصرالله بأن يحكم المنتصر، وصولاً إلى العودة إلى حكومات الوفاق مع حكومة الرئيس تمام سلام على رغم إسقاط حكومة 14 آذار والذهاب إلى القتال في سوريا، وأخيراً الاستعاضة عن الفراغ بانتخاب رئيس للجمهورية من 8 آذار تجنّباً لإسقاط الطائف، وفق ما قيل آنذاك.
والمقصود مما تقدّم ان الفوز بالأكثرية النيابية هو خطوة مهمة للغاية لكفّ يد الفريق الآخر، ولكن خطوة غير كافية، كما انّ عدم الفوز بالأكثرية ليس كارثة في حال نجحت المعارضة في توحيد صفوفها والاتفاق على قيادة مشتركة للاستحقاقات الدستورية، لأنّ التجربة دلّت الى انه على رغم انّ 14 آذار ووجِهَت بالحديد والنار، اي الاغتيالات والعنف والتعطيل والتفريغ، ولكن هذا لا يبرِّر انّ إدارتها للأكثرية وللمواجهة في الاستحقاقات الدستورية والمفصلية كانت في غير محلها.
وما يقتضي تسجيله انّ المعارضة في حالتي فوزها بالأكثرية او خسارتها لهذه الأكثرية فإن في يدها ورقة بمثابة «جوهرة» وهي استراتيجية الفراغ التي تُمكِّنها من التحكُّم ببنيان السلطة وعدم منح محور «حزب الله» هذه الجوهرة، كعادتها، مجاناً، ومعلوم انه بأمسّ الحاجة إلى تسوية بشروطه، اي من دون تنازلات جوهرية، تُعيد إنتاج السلطة بدءا من رأس الهرم وتطوي صفحة الانهيار والثورة لسببين أساسيين: لأن الثورة تكون قد شاركت في الانتخابات وظهرت على حجمها وصناديق الاقتراع تؤدي إلى تنفيس الاحتقان، ولأنّ إنتاج السلطة يعني منح فرصة وعودة الأمل مع عهد جديد ما يُرَيِّح الأسواق نسبياً ويُفضي إلى استقرار، وكل ذلك من دون اي تغيير في جوهر الأزمة المتعلِّق بسلاح «حزب الله» ودوره.
فالاستراتيجية الوحيدة مبدئياً التي يعوّل عليها في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية هي استراتيجية الفراغ الرئاسي. فهل ستنجح المعارضة في توحيد صفوفها أولاً والاتفاق ثانياً على خطوات عملية تكون استراتيجية الفراغ في طليعتها من أجل استجرار التدخُّل الدولي الذي يُفضي إلى عقد مؤتمر دولي لحلّ الأزمة اللبنانية، وهو الخيار الوحيد لإنهاء إشكالية السلاح؟