بعيداً من الجلبة الاعلامية التي تواكب المفاوضات الجارية والمتعلقة بترسيم الحدود البحرية، الّا أنّ النتيجة محسومة سلفاً، فطالما انّ الانزلاق في اتجاه الحرب مسألة غير واردة لأسباب عدة تُعتبر قاهرة، فإنّ هذا يعني أن لا مفرّ من ابتكار الصيغة المطلوبة للذهاب إلى تسوية مقبولة.
ووفق المعلومات التي رشحت والمعززة بالمواقف والتصريحات فإنّ النقاط الأساسية تمّ التفاهم عليها، وتبقى بعض التفاصيل الجانبية. صحيح انّ المقولة الرائجة في لبنان هي «أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل»، الّا انّ الانطباع الغالب هو انّ التجاذب حول هذه التفاصيل هو بهدف تحسين شروط التسوية التي ستحصل.
ولقد ثبت خلال المراحل الماضية، والتي كانت صعبة جداً على لبنان واللبنانيين، انّ ثمة حداً صارماً وُضع دولياً لمنع لبنان من الانزلاق في اتجاه الحروب ومستنقعات الدم. وهذا ما ثبت على الرغم من الانهيارات الاقتصادية والمعيشية والصحية التي خنقت لبنان طوال المراحل الماضية، وكان الرهان دائماً على المؤسسة العسكرية.
وعندما حصلت مواجهات عسكرية هدّدت الاستقرار الأمني في البلاد كمثل حادثة الطيونة والتي حسمها الجيش، ضغطت واشنطن لمنع تدهور الاوضاع اكثر والذهاب إلى المجهول.
والمقصود هنا، أنّ الانهيارات الاقتصادية والمعيشية، المسموح حصولها على ما يبدو، لا يجب ان تمسّ الحدّ الأدنى من الاستقرار الامني، وهذا ما ينطبق بدوره على الوضع في جنوب لبنان.
ووفق السياق نفسه جاء تلويح «حزب الله» بالحرب، كعامل ضاغط للذهاب إلى التسوية لا العكس. وهذا ما ادّى إلى التسريع في المفاوضات. وفي الاطار نفسه ستتعامل واشنطن مع قرار التجديد للقوات الدولية (اليونيفيل) العاملة في جنوب لبنان بكثير من الواقعية.
وبخلاف الاصوات التي كانت قد ارتفعت داخل واشنطن حول وجوب إدخال تعديلات على مهمات قوات «اليونيفيل»، فإنّ ادارة بايدن تتجّه إلى تجديد عمل هذه القوات من دون المطالبة بأي تعديلات، ولو انّ مندوبها في الأمم المتحدة سيستعرض الأحداث والعوائق التي واجهت مهمّاتها في جنوب لبنان على يد مجموعات «خارجة عن سلطة الدولة اللبنانية»، وبالتالي فإنّ الصورة تؤشر إلى تفاهم قريب حيال ملف ترسيم الحدود البحرية، مع ترك نقاط ستعالجها لاحقاً الاجتماعات التي ستعقد في الناقورة.
وفي حال ذهاب الامور في هذا الاتجاه، فلهذا معناه السياسي العميق، والمقصود هنا، انّ النجاح في ولادة التسوية حيال الحدود البحرية تعني انّ المناخ مؤاتٍ لتسوية سياسية من المفترض ان يجري نسجها لحلّ الأزمة السياسية الخانقة في لبنان على ابواب الاستحقاق الرئاسي المفصلي والمهم.
وبخلاف سيل التصريحات والمواقف الدولية التي دعت في السابق إلى إتمام الاستحقاق الرئاسي في مواعيده الدستورية، فإنّ المرحلة الحالية تشهد تراجعاً في هذه المواقف، ما يعطي الانطباع بتراجع الثقة الدولية بإنجاز هذا الاستحقاق في مواعيده.
غالب الظن، انّ التقييم الدولي للمرحلة اللبنانية الحالية هو أنّها مرحلة مراوحة ودوران في الفراغ، والمقصود هنا حصراً الاستحقاق الرئاسي. فواشنطن كانت أبدت ارتياحها إلى اجراء الانتخابات النيابية. هي ضغطت في هذا الاتجاه واعتبرت انّها بحصول هذه الانتخابات ضمنت عدم انهيار المؤسسات الدستورية اللبنانية وبالتالي عدم زوالها، وهو ما حقق استمرارية الشرعية المطلوبة من خلال استمرار وجود مجلس نيابي جديد هو بمثابة البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني. وبمعنى آخر حققت الانتخابات النيابية استمرارية هذا النظام وعدم الذهاب إلى دهاليز اخرى.
اما بالنسبة إلى الحكومة، فكان من الافضل تشكيل حكومة جديدة، لكن الآمال الدولية حيال ذلك كانت منخفضة بسبب النزاع الدائر دائماً بين اطراف الطبقة السياسية حيال ضمان مصالحهم الذاتية والسياسية، وهو ما كان سيحول دون نجاح تشكيل الحكومة.
لكن الاوساط الديبلوماسية ترى انّ وجود حكومة، ولو في اطار تصريف الاعمال، يحافظ على استمرارية هذه المؤسسة، ولو بالحدّ الأدنى المطلوب. ولذلك، فإنّ التقييم الدولي يرى أنّ الحكومة، وعلى الرغم من انّها اصبحت في واقع تصريف الاعمال، انما تبدي عزمها على تحقيق بعض الإنجازات المطلوبة منها، ولو انّها تبقى محدودة ومعدودة. ذلك انّ لبنان مطالب بالتجاوب مع شروط صندوق النقد الدولي لإجراء الاصلاحات المطلوبة كمدخل إلزامي لإعادة بناء مؤسسات الدولة.
واستطراداً، فإنّ استمرار تعقيد الامور على مستوى الانتخابات الرئاسية سيدفع من دون أدنى شك إلى الفراغ الرئاسي، وبالتالي إلى انضاج الظروف اكثر في اتجاه تسوية دولية ـ اقليمية حيال المرحلة المقبلة.
من هنا، فإنّ اهمية نجاح المفاوضات حول الحدود البحرية، سيعني انّ الابواب مفتوحة للذهاب إلى تسوية سياسية تسبق الانتخابات الرئاسية في مرحلة الفراغ الرئاسي، ولكن على أن لا تمسّ هذه التسوية «هيكل» اتفاق الطائف كما لوّح البعض في مراحل سابقة، بل وضع الاطار لتنظيم الواقع اللبناني وإعطاء الضمانات الامنية المطلوبة وإعادة بناء مؤسسات الدولة تحت اشراف صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية، على ان يتولّى انتخاب رئيس جديد للبلاد تدشين هذه المرحلة الجديدة.
ألم يكن معبّراً كلام رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس حين قال في الأمس: «ليواصل لبنان السير على طريق الولادة الجديدة».
لا شك انّ على لبنان ان ينتظر تطورات اقليمية مساعدة، فالحدّة التي انتجت تباعداً بين واشنطن وطهران حيال العودة إلى الاتفاق النووي، تراجعت بعض الشيء خلال الايام الماضية. والتسوية السياسية في لبنان بحاجة إلى مناخ ملائم مع ايران.
وعلى الرغم من البرودة التي اتسمت بها زيارة بايدن للسعودية، الّا أنّ ثمة خطوات عملية بدأت تتحقق، كمثل موافقة الكونغرس على صفقة سلاح للسعودية والامارات بنحو 5 مليارات دولار اميركي، والتي تتضمن انظمة دفاع صاروخي من ضمنها 300 منظومة صواريخ من نوع «باتريوت» التي تُستخدم لاعتراض الصواريخ البالستية بعيدة المدى، إضافة إلى الطائرات المهاجمة. و»الباتريوت» كان احد أبرز اسباب نفور السعودية بعد قرار واشنطن بسحبه منها، وبالتالي انكشاف الامن الحيوي السعودي امام هجمات الحوثيين.
وفي الوقت نفسه، تنشط البحرية الاميركية في مجال مصادرة شحنات الاسلحة المرسلة بحراً إلى الحوثيين، اضافة الى تكثيف قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي زياراته الميدانية لشمال سوريا كما إلى قاعدة «التنف» عند مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الاردنية.
فالتسوية في لبنان في حاجة ايضاً إلى علاقات افضل بين واشنطن والرياض خصوصاً لناحية تأمين الدعم المالي واستعادة التوازن الداخلي، بعد كل الخضات التي حصلت، خصوصاً على الساحة السنّية.
صحيح انّ الاتفاق حول الحدود البحرية يؤشر إلى انّ ابواب التسويات السياسية مفتوحة ولو بخفر، لكن الظروف الاقليمية قد تحتاج إلى مزيد من الخطوات المأمول حصولها خلال الاشهر المقبلة، لتأمين تسوية سياسية والبدء بمرحلة جديدة انطلاقاً من وصول رئيس جديد قادر على الجمع بين رعاية الخارج ومتطلبات الداخل.